شهر نوفمبر - أشعار .

(الـ . . بالـ . . ) - للكاتبة / أشعار


احتقان ,

احتقانُ الفراغ بالملح ,
و الملح بالبحر ,
و البحرُ بالزرقة ,
و الزرقَةُ بالورَم ,
و الورم بالتأجُّج
و التأجج باليأس ,
و اليأس بالنار ,
و النّار تعني ..
أنْ لا شِفاء .

احتقان ,

احتقانُ القطار بالحقيبة ,
و الحقيبةُ بالحقيقة ,
و الحقيقة بالحزن ,
و الحزن بالشجَر ,
و الشجر بالخريف ,
و الخريف بالحمّى ,
و الحمّى بالمرايا
و المرايا تعني ..
غياباً على شكلِ خريطة .

احتقان ,

احتقان العُمر بالفجوات ,
و الفجوات بالأصوات ,
و الأصوات بالصدى ,
و الصدى بيومِ الأربعاء ,
و الأربعاء بالانتظار ,
و الانتظار بالانتظار ,
و الانتظار بالخيبة ,
و الخيبة بالحنظل ,
و الحنظل يعني ,
أنْ لا بَراء من الصدى ,
و الحنظل يعني ,
بقيّةَ أربعاءٍ عليلْ .

احتقان ,

احتقان العقلِ بالقامات ,
و القامات بحَمامٍ لا يطير ,
و اللا يطير تعني ,
شللٌ يرقص كالغَوْرِ ,
و اللا يطير تعني ,
غورٌ طافحٌ بالرغبَات .

احتقان ,

احتقانُ العالَم بالأرض ,
و الأرض بالقبر
و القبر بالناس ,
و الناس بالدود ,
و الدود بالملح
و الملح بالفراغ ,
و الفراغ بالجنة ,
و الجنّة تعني ,
إمّا تغريد الطير ,
أو فحيح ما غاب
عن الأربعاء .

احتقانٌ ..

الـ … , بالـ …
و الـ … , بالـ ….
و الـ … تعنِي ,
المزيدَ مِن الفراغ ! .




شهر نوفمبر : HERA

(وضعية السقوط!) - للكاتبة / HERA


شخص تعشقه
بلا مبرر
هو شخص تسامحه أيضاً
بلا مقاومة
حتى أن تجـعل منه جلادك
وقد كنت تعرف هذا منذ البداية
لكنك تواطأت مع نفسك
حتى النهاية
تكفيراً لذنبك
ستحمله يوماً إلى السماء
لتذبحه
فتمطر السماء دمه
باتساع أكبر دائرة
تكريماً له
وستظل بالأعلى وحيداً
فارغاً من الشحنات
لتدرك فجأة
أن قدماك على الأرض
ورأسك بالأسفل
نعم .. أنت بالجانب الأسفل
من الكرة الأرضية
انظر إلى الأعلى .. أسفلك
و إلى الأسفل ... أعلاك
أم العكس هو الصحيح ؟؟
لا تفرق .. مجرد وجود نسبى
لا تباعد بين قدميك
هذا ليس بهاجس أنت بالفعل تسقط إلى السماء
والآن ... اتخذ وضعية السقوط !!!!!!!



شهر نوفمبر - الشاهين .

(منتصف الليل إلا ربع.. !) - للكاتب / الشاهين


..ورقة أولى

صديقي ليس كسيحا؛ هذا ما أنا متأكد منه، رغم أنه يخبئ أقدامه عني تحت المقود بشكل دائم...... تسعة أعوام مضت منذ أن التقينا للمرة الأولى عند الإشارة الحمراء. كنت لحظتها مستعدا لخوض أي من الأحاديث البلهاء.
يبدو الأمر مثيرا للاهتمام، أو الاشمئزاز، عندما يقفز شاذ جنسي إلى طاولتك المعدنية متحججا بإشعال سيجارة كارتيه لاختلاق حديث ما. ليس بالضرورة أن يتبع هذا الحديث المبدأي تحرش جنسي سريع، فغالبا ما يخبئ لك هذا التحرش إلى مناسبات أكثر صخبا. قد تمنح قداحة السجائر الخاصة بك دون أن تزيح عينيك عن تلمس نقد تبجيلي مطول لــ "بنات الرياض" أو مجرد خبر صغير عابر عن صدور "قنص" أو "فسوق"، أو قد تتوقف عن القراءة لتشعل سيجارة الشاذ بنفسك، فالأمر يحكمه المزاج المحض، المتحرر من لباقتك الاجتماعية، بتلك اللحظة.
صديقي ليس كسيحا، ولا شاذا، هذا ما أنا متأكد منه. ليس فقط كونه طلب مني اشعال سيجارته عند الإشارة الحمراء، وليس بالقرب من الطاولة المعدنية. وليس كونه لم يرتب للقائي مرة أخرى، بل تم الأمر بمحض صدفة تابعة لا أظنه رتب لها بشكل يفقدني الثقة بنباهتي المعتادة، ولكن لتأكدي- بعد التجربة اللاحقة أنه مدمن لــ النيكوتين، وأن قداحة سيارته لاتعمل. حدث ذلك عندما فرغت بطارية هاتفي النقال قبل جسر البحرين بخمسين كيلومترا وقسيمتي سرعة، ومخالفة انتهاء رخصة التجول بمدن بلا أحذية.
إلى جانب كونه غير شاذ، فأنا متأكد جدا أنه ليس كسيحا، ولم تضللني عكازة الألومنيوم الممدة على مقعد الــ "لومينا" الخلفي، عن هذا الإستنتاج. لا أنكر أنني لم ارى قدميه يوما؛ غير أن غيبياتنا تؤكد أن عدم الرؤية لا ينفي الوجود. ثم أنني لم أعتد رصد اقدام الآخرين، متجاهلا كل افتراضات صديقي (م) بأهمية الأقدام.
قال لي، ذات لقاء: (حجم قدم الرجل يساهم في تشكل شخصيته، وهيئة قدم المرأة سببا في اكتناز مؤخرتها من عدمه)
- الـــ 43، كمقياس ايطالي، أجدها على "فاترينات" محدودة تلتهم بعض أرصفة المدينة العرجاء.... وغير ارصفتي المحدودة لا تعنيني اقدام أخرى.... أنا لست اسكافيا، على كل حال، لأحدد نوع أصدقائي أو نزواتي العاطفية استجابة لصورة حذاء نسيها عابر على تربة تشبعت بالمطر.
على مدخل الـــ "سيف وي" ألمحه على مقعد صغير، دون ظهر أو اقدام، يرصد اقدام العابرين كعاشق ماهر.. أمنح له قدمي ليلمع جلدها البني المستعار، من حين لآخر، كــ إرضاء لفضوله. صديقي لم يفعل يوما رغم أنه ليس كسيحا، وهذا ما أنا متأكد منه رغم رؤيتي للعكاز المعدني ممتدا على مقعد الــ "لومينا" الخلفي أكثر من مرة!
على مدى تسعة أعوام وأنا ألقاه إما ممتطيا العجلات، بسرعة جنونية، أو مسترخيا على طاولة معدنية؛ يستطعم القهوة السوداء والأحاديث المرة، والضحكات الساخرة، وكونه يفعل ما ألاحظه على أبناء المدينة برمتها لا يجعلني أشكك، كــ صديقي (م)، أنه كسيحا!


.. ورقة ثانـــــية..

ليس بيني وبين السرير سوى مسافة لا تتجاوز خلع "المنشفة" الملفتة على خصري لا أكثر.
قالت أنها تشعر بالنعاس، وأنا أشعر بالكتابة، وعلي أن أتجاهل المسافة الفاصلة بين "منشفتي" والسرير، وعليها أن تترك لــ "ضغث" الحلم أن يستسلم لسطوة "الكيبورد" كتطبيع مع جندي محتل اشرأب أنفه كبرا..
مساء الغرفة باردٌ كعاطفة شيخ له تسعة أبناء، وجسدها الناعم لا يحتمل هذا البرد. تدثرها بالأغطية لا يمنع قدمها الناعمة من لعن حرس الشتاء بالتسلل قليلا إلى خارج القيود، وكفري بقياسات الأقدام والفترينات لا يمنع بصري من التربص باصابعها الدقيقة.
ستنام، وسأكتب.. ستبرد أصابع قدمها كقلب شيخ، وسأقيس حذائها بفضول إسكافي الــ "سيف واي"، رغم ثقتي أن صديقي ليس كسيحا، وأن صديقي الآخر (م) متسرع في اختلاق النظريات!


..ورقة ثالثــــــة..

علبة سجائري فارغة الآن، وحذائي بعيد عن فضول البحث بمقدار رغبة ليلية في الاسترخاء، والمراودة فعل استثنائي لا يجيده من يحيى انتظارا لموت يؤمن بلياقة خاتمته... الموت لا يأتي لائقا في معظم الأحوال !
تساورني رغبة مراودة أصابع قدمها النائمة عن وجعي، وأتضرع شبقا إلى سيجارة لا تضطرني إلى معاودة البحث عن قدمي المستعارة (جزمتي)....... صديقي ليس كسيحا على كل حال، رغم امتطاءه عجلات سريعة قد تقود إلى الموت بكل اللحظات، كمدينة استمرأت "الحفي" والموت التصاقا بأعمدة النور وأشجار الزينة على الطرقات. الوقت- ساعة وتسعة وثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل- اقل قدرة من استرخائي على مهاتفة صديقي الآن... لست مؤمنا أن يرد لي جميل قداحة الإشارة الحمراء بسيجارة متأخرة على كل حال، ولن تفيق أصابعها النائمة لهدهدة لهفتي بـــ هذا المساء !

.. ورقة رابعة ..

القدم هي المقياس المتري الأولي لحجم هذا العالم..
والـــ تحليق لا يحسب سوى بالأقدام !
3400 قدم طيران هي كل ما تحتاج للوصول إلى جدة، كمثال تقريبي.. و 60 قدم هبوط كافية لأن يصعد قلبك إلى ترقوتك، وروحك إلى الله!
لا أستطيع بهذه اللحظة، وأنا أفكر بقدمها أن أكفر بتنظيرات صديقي (م)، ولا أجزم، قناعةً، بكساح صديقي الآخر لمجرد انثيالنا كشبق أبوي ردئ على صدر مدينة حافية.
قال لي أن جبينه مستعد لتصوير خطوط بلاط الرصيف عند أي انزلاق عابر، ولم أصادق على هكذا افتراض طالما أن ساقيه مخبأة تحت مقود الـــ "لومينا"، أو تحت سيقان طاولة المقهى المعدنية كل ما التقينا!
صديقنا (م) ترك لنا نسخة مزورة من سحنته على زجاج مقهى "التحلية" ورحل؛ لمجرد تغزّل عابر بنكهة إصبع قدم حبيبته الصغير.


شهر نوفمبر - ركام .

(إسرارات !) - للشاعر / ركام


*
أنا المسكين
من ليس يمكن أنه يوماً
سيرجو مرحمة .
*
أنا الشاعر الوتر الذي لولاك يا أصدق الأصدقاء, يا أنبل الرفقاء , يا أجمل الأشياء في عيني وقلبي الذي يطمئن بقربك أكثر من أي قرب آخر لأي شيء عداك..أنا الذي لولاك كنت مع حزني العظيم العظيم وجنوني اللانهائي , يتيما أثير في كل شيء يراني أو لا يراني الكثير من الشفقة, الشعور الأشبه بشمطاء حقيرة تافهة .
*
أنا الكائن الحي الوحيد في عالم كله ميت ..كله مقبرة.
أنا الوحيد في العالم, من بوسعي فعل الأقل بكثير مما يمكن..للتعبير عن أكثر مما يمكن بكثير.
*
أنا خلاصة
ربع قرن من الزمن العاصف!
والمختصر المفيد لتاريخ الألم.
*
إنني أنا , من بذات الوقت الذي كل مخلوقات الله رأتني أسعدها ؛ كان الله الذي يعلم ما لا تعلم كل مخلوقاته مجتمعة, الله الذي يعلمني جيداً أكثر من أي مخلوق.. أكثر من أي أحد, كان يراني تماماً .. على عكس ذلك!
*
أنا يوم مولدي, كان الوجود مستنفراً كله ليواجه أخطر حالة طارئة في كل تاريخه.
وبذات اليوم كان أعظم حدث في الكون بالنسبة لي.. انه حدث عظيم جدا الى حد ان أحداً لم ينتبه إليه. إنه ديدن نقاط التحول العظيمة في تاريخ البشر.
*
أنا قلم حمزاتوف الذي لا يموت .
أنا مداده الأبديّ ..
أنا يد مونيه الخالدة.
أنا الصوت الوحيد لكل شدو مر على صمت كل العصور..
أنا مصدر الأغنيات الوحيد ومداها
أنا ؛ و كل أناشيد الزمان
أنا صداها السرمديّ.
*
والبنت البردانة في أقصى الكون
قصيدتي المفضلة ..
*
صوت مفاصل أبواب منزلنا القديم ,حين يثّاقل الباب لما تحركه الرغبة الثائرة, تحدث في فضائي أجمل أغنية في الحياة ..
*
انا من يجيئ كدستور للساحل الغربي و لكل البنادر, الموجودة كنهايات مناسبة نثرتها يد الله على الكرة الأرضمائية كمراكز للحزن أو للشعور الموضعي بعامة. ولمن أراد استثارة كل براكينه في هدوء شديد.أو كمصحات لذوي الأذهان البليدة, و الأفئدة المتصحّرة / المتصخّرة, و لعموم من ماتوا مسبقاً.
*
أنا من جدلت سيدة النور, جلالة ملكة لياليّ السرمدية الكلها سهَر ونشوات بعيدات عالياً جداً ؛ سنيّ طفولتي المرهقة الأولى باغنيات كـ"حبّينا وتحبّينا" و"ميِّل وحدف منديله" و"أنا بسأل النجوم كل ليلة عليك وباكتب كل يوم غنوة شوق بتناديك" , و"معزومة من ضمن المعازيم".
*
حتى كنتُ أنا ضفيرة الشِّعْر الوحيدة. وعليهِ كنتُ أنا .. فرصة الزهو الوحيدة للحياة!
*
وكما للجبل وصفاء اللون الأخضر ونقاء الماء الطازج من الله مباشرة لريق الأرض..الأثر واضح على كل شيء فيّ , للبحر كذلك أيضاً وبياض ملوحته والصدأ.
وللحزن والغربة العاصفة.
*
مكبّل أنا و هذي مذكرة
لحمل كل ما لا أطيق.. الخ!
أو الى آخره!
*


شهر نوفمبر - رجاء عزاوي .

( عن الريحاني في عيده 35!) – للكاتبة / رجاء عزاوي

- الستار الذي يبطئُ هجرته ، السرير المشعث ،الدسار الذي يسبح في فلكِه العظيم كأنه سماءٌ أخرى ، يبدو لي أن الوحدةَ تتحول إذ نمتُ لا أعرف قرابة كم، غارقة في لجِّ من الظلمةِ مضيئةٌ حيناً ، حالكة حيناً , عبر هذا النفق العذب من الإشاراتِ التي تمضي ببطء فوق رأسي .
لم أكن أسمع إلا هسيس الأرض الذي يعلو مع كل انحناءة ريحان ، و صوتَ العشب الذي يمنحُ النيامَ معنى للألوهة .
عينايَ تتثاقلانِ كحجارةٍ ناضجة ، تبحثان عن ثقبٍ في جفني ينمو عبره الضوء و يحترق .
فُجاءً خيل لي أن صوتكَ يرتحلُ عبر زجاج النافذة ، يغسلُ فرحتي في شكلها الأول كما صلصال عارٍ
يدفعُ هذا النوم بعيدا ،يأخذني مجروشةً إلى منافذ أخرى سرعان ما بددتهُ في إناء فارغْ و أسكنتْ رأسي موسيقى الشجر.
*
- ليسَ أكبرَ من وحشةِ البقاء وحدكَ تحاول على دنٍّ ابطاءَ لهفكَ وكل حواس الريح تغتالُ سكونك. يداك جذلى نحو السماء يغطيها دُبَالُ الصمتِ ، فمكَ يكَّاشفُ عن تناهيدَ أرجوانية ، عيناكَ زمردٌ يسافر عبر مصابيحِ الغرفة و وجهكَ مضاءٌ بعشب لا يقدر أيُ ديجرٍ أن يحصرهْ . تمضي بين أشجار العرعرِ تجوسُ فضاءهاَ كذكرٍ نحلٍ واحدٍ في ذاته ، يلاحقه ظله هيولياً لا تبللهُ زهرة.
الريحاني نسبةً للريحان الذي تهشهُ جيئةَ و ذهابا ، فيما عيناك معلقةٌ في سقف الحوض الإيزوروسي يكادُ يتمزق عن طرف قصيدةٍ أو أولَ جنة.
مرَّتْ الآن أربع سنواتٍ ، لستُ إلا كلاما يعبرها يحارب الغياب ، و أنت الريحانيُ الذي ينهض من رماده كفينقٍ مشتعل ، تقرع نافذتي في منتصف سهري يفلت بعدها مني باقي الكلامْ. ويستحيل الضوء ريحا و سديما.
لطالما تخيلت طريق دوف المليء بالسمندلات ِ ، البلاد الفائقةُ الكمال التي ننتظرها ، ستقول أن الصباح يزين عتبة البلاد الرخامية وأنه كائنٌ مسمى للصفصاف يحتلُ سواقيَ دمنا. ستقول :لأجلكِ سأرفع أفقَ عينٍ تسقطُ فيه النجوم ، سنعبُّ من معزق الليل غايتنا .
مرتْ الآن أربع سنواتٍ،نجحتُ في تميز فحم أجفانكَ الذي يسافر شارةً سوداءَ عبر جسمك الناحل وأثر الحوافر التي تثقب يدكَ اليمنى ، لحظة يميل إليكَ الخيل بوجه البني كمثل عصفور يرتجف . فيما حزنك قد شيَّد نحو الشاطئ جسرا من حديد لم يعد يستوقفهُ ملاكٌ ولا لون.
يتبادر لذهني الآن شجر القيقب وقد اشتعلَ برأسه الخريف، يخيلُ إلى الناظر لأوراقه أنها تتلألأُ وأنه أمام شجرة كونيةٍ توشك أن تنفطر على مأوى، وأنت كأنكَ في صدرها تدخلني مرجَ الضوء و النهر يتحدث قربنا عن هذا الحب النابت الـ يتشكل فجأة.


شهر أكتوبر - يونان .

(حفريات في الذاكرة ) - للكاتب / يونان
حين يمضي الليل بالجالسين ، ويلتفت أحدهم باحثاً عن شماغه إيذانا بالرحيل ، فإن من دواعي الاسترخاء أن يعرف المرء سبب عشقه لنادٍ ما ! خاصة إن ضُج الرأس بأمور وأسباب وجيهة ؛ كون من طبيعتها أنها لاحقة وتبريرية ، أو كما في العادة : دفاعية ؛ تـُجاحِش عن قرار اُتخِذ دونها مجتمعة ، وقبلها بكثير ؛ في سني الطفولة الأولى ...


(1)
كانت المبخرة ترسل خيطا باهتاً من شذى العود الباقي بعد انقضاء الوليمة . وعبر باب المجلس المفتوح ، اختفت أحذية رجال وأطفال كثيرة ، مخلفة فراغا ناصعا امتد إلى حوض النخل ، وفتى حافي القدمين ، يغالب بلاطا لم يزل محتفظا بحرارته بالمشي على كعبيه ، ليستريح أخيرا في الداخل بجانب شابين لا يفارقهما أبداً ، شابين كانا نحيلين عصر ذلك اليوم في المجلس .

ودون أن نظلمهما ، ذينك الشابين اللذين كانا نحيلين ، كانا – كالآخرين - لا يجدان غضاضة في استخدام كافة ضمائر الملكية والجمع .
ودون أن نظلمهما ، أو نلتفت للغرّة التي علت جبين كل منهما ، كان طبيعيا أن يلتقط ذهن الصغير تلك الإشارة ، فيفهم وفقا لذلك ما خلاصته : أن فريقاً يتربص بنا الدوائر ، يُدعون " هم " وندعى " نحن " .

كانت عينا الصغير مسلطة على القابع في ركن المجلس : التلفاز الخشبي ذي القوائم ! وحين قام أحدهم بفتح درفتي التلفاز اليمنى واليسرى ، انداحت عن ست عشرة بوصات كفت لحضن الملعب وقتها ، وانطلق الصوت قبل الشاشة التي اخضرّت شيئا فشيئا . ومع ذلك الصوت ، حصل الصغير لأول مرّة على تفسير لهياج الناس الواصل إلى فناء المنزل . كان المنزل يقع قريبا من أستاد الملز !

- هذا هو سلطان بن نصيب ؟

يجب أن أقول أن لتردد اسم سلطان بن نصيب في حوارات النحيلين قد شطح بفضوله ، ولكن جواب السؤال كان عموما " لا !"

- هذا الحكم الله يصلحك !

على كل حال ، لم ييأس من ضحك الشابين فلابد من شيء يميز ذلك الرجل .

- هذا سلطان بن نصيب ؟
- لا هذا الحارس !

ودّا لو رفعاه من أذنيه

تبين أن ذهن الصغير لا تكفيه إشارة يلتقطها ، ومن الأولى تقديم شرح مستفيض لألوان الناديين قبل التصريح بانتماء سلطان بن نصيب .


(2)
كان اللونان الأزرق والأبيض لنادي الهلال يتناسقان في عيون الطفل الذي كانه ، ويتناغمان سوية في مزيج سائغ ومشرق ، كأن الأبيض لم يخلق إلا للأزرق . جاعلهم تلك اللحظات ملائكة أمام لاعبي النصر الممتعضين وملامحهم المكدودة .

ومع أن ما شاهدته في الملعب آنذاك لم يكن ليحصل مستقلا عن اللون ، إلا أن اللون كان كل شيء ، كل الأهداف والفنيات أو المهارات تتأسس على اللون – لا العكس – ووفق المحيط اللوني للنادي . كان اللون لاعب آخر في نظر المشجع الصغير ، يلعب كمحدد إضافي لفنية حركة التخطي ، ومتعة الكرة إجمالا .

استمر الشغف اللوني وفق إدراك حسّي فقط ، حتى مع بزوع بوادر انفصال أو تجريد للصورة المركبة أمامي ، ( تميز حركات الكعب عن باقي الحركات مثلا ) فإنها تنفصل وفق إزاحة لونية تنغمس فيها تلك المهارات ثم تذهب إلى مدى أبعد من كرة القدم . على سبيل المثال : كنت اتخيل صالح النعيمة بسيارة كابرس زرقاء ، ميداليتها زرقاء ، ثم لابد أن يكون كنب المجلس بألوان نادي الهلال !

لنبق في عام 1401 – 1402 حيث الإعجاب اللوني مرتبط بالذائقة تلك الفترة ، إذ يصعب تركيب لون جميل ذلك الوقت ينفع لنادي النصر أوالاتحاد . ربما ساعدت الألوان في فهم ميول التشجيع ذلك العمر – وفي تلك السنين يوم أن كانت تعزلنا جدران من لون واحد تقريبا . ولنأخذ مثالا على ذلك ، جزئية من تركيب لوني ولعنا به ونحن صغار ، حذاء الكرة الأسود الباتريك مع الشراب الأبيض ! إن هذا مما يحسب في دائرة الفهم الكروي !

إن الفهم الكروي من أساسيات النضج لدى الصغار ويزايدون على بعض في هذه المعرفة ، إلى درجة أن مهارة اللاعب الصغير وإن كانت تشكل برستيجا خاصا ومميزا أمام أقرانه ، إلا أن المحاججة مع الخصوم عامل هام يتم الاستعانة به للصمود في وجوههم ، عندما تكون المحاججة فرصة لاستعراض مسميات الحركات وظلم الحكام !

وما أذكره جيدا هو أن أرقى رتب المحاججة هي التصريح بحدود قدرات لاعب ما ، كأن يكون مثلا ممن يتقنون تضييع الفرص السهلة ! إن استعراض معلومة كهذه يوحي بألفة وامتداد زمني طويل مع كرة القدم ، بعبارة أخرى ، الطفل يحاول أن يكبّر من سنه - تلك الأمنية العجيبة .

كنت أقول أن اللون يتدخل مع بداية معرفة الصغير لفنيات الكرة . لكن الصغير يكبر على تلك المتعة البصرية الخاصة باللون ويعوض عن ذلك بمتعة أخرى هي النقاش والحجاج الكروي . والطريف أن اللون لا يقنط من خروجه أبدا ، فمن النقطة التي يخرج فيها من فنيات الكرة يتدخل لاحقا بتلوين نقاشه !

شهر أكتوبر - Holed

(مثقوبة) - للكاتبة / Holed

1
حدث وجرحتُ اصبعي في الصغر
-كما يفعل معظم الصغار-
ومن يومها .. وأنا مثقـوبة
تسقط مني السعادة سريعاً ..
أسرع من الوقت الذي أحتاجه
كي أضحك !

3
أنا الفاصلة التي ضلـّت الطريق إلى السطر
البقعة التي سقطتْ سهواً من الحبر
الخط الذي تختبر به صلاحية القلم
أرى البياض حولي،
فأظنه ضوءً مركزاً عليّ ..
وأنا في الحقيقة ..
في الهامش .

4
الفتاة التي تنظر إليها لا تراك !
الضحكة التي توقظك من نومك ليست حصاد السعادة !
الحكاية التي تأتيك ناقصة لم تُروى في الوقت المناسب !
العمارة التي تراها أمامك شامخة ..
في قلبها شرخ
يكاد أن يسقطها .


5
تحزنني رائحة الوحدة في غرفتي، مكتومة ولا تدخلها ابتسامة الصباح. أشيائي التي تقف كعسكري لندني بعيدةٌ عن بعضها البعض ببُعدٍ محدد ويحرم عليها الهمس والكلام ، كتبي التي تقف مطأطئة الرأس ، بابي الذي لم تطرقه يد صديق منذ سنوات ، وأنا المكوّمة بخوفٍ على سريري الأبيض طوال اليوم .

وحيدة ككوبِ ماءٍ نسيته ربة المنزل أسفل صنبور الألم
ولم يجد صديقاً ينجده قبل أن يفيض .

وحيدة كسلعةٍ هتك غلافها طفلٌ صغير
ولا زالت تنتظر أن يُعجب بها أحد .

وحيدة كحقيبة سقطت من طائرة في صحراء
ولا سبيل لأن يعرف مكانها أحد .

10
أحاول أن أسامح الجينات التي أورثتني عـُقـَد أمي
وعيوب أبي ..
أحاول أن أسامح الشر لأنه اختار أختي وسيطاً للإضرار بي .

أحاول أن أسامح الحياة التي وضعتنا في قفصٍ كبير، مزدحم وخانق .
أحاول أن أسامح ذكرياتي السعيدة التي ضاعت وسط الزحام .
أحاول أن أسامح القدر عندما خيّب ظني .
أحاول أن أسامح الضحكة التي لا تحنّ ولا تراني .
أحاول أن أسامح الجُرح بحجـّة إكرام الضيف .
.
.
.
في الحقيقة ..
عليّ أن أسامح نفسي أولاً .

شهر أكتوبر - ابتهال سلمان .

( الجاذبية الأرضية .. شكراً ) - للكاتبة / ابتهال سلمان
هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن ثمة ما يربطه بالأرض سوى جاذبيتها التي لا تُقاوم؟ أتمنى لا. لكن وحتى قبل الوصول إلى ذلك الوقت، تبقى هِبات جاذبية الأرض مستحقة للشكر. شكراً لأنك سندت الإنسان حين ارتفع للمرة الأولى على قدميه وبدأ الخطو. لا أستطيع أن أتخيل كيف كان يمكن له أن ينجح في أي شيء لو فشل في المشي. وشكراً لكل الخطوات التي جابت الأرض منذ الديناصور وحتى اليوم. ربما لم يكن بوسعك مساعدة البشر في اتخاذ قرارات الاتجاهات الصحيحة أيضاً، لكن هذا ليس خطأك بالمرة. شكراً لانك حافظت على صلتنا الوثيقة بالأم التي خرجنا منها وإليها سنعود، في الوقت الذي تتعرض فيه معظم علاقاتنا يومياً لانعدام شديد في الجاذبية. شكراً لأنك كنت منصفة بين الناس ، لأنك عاملتهم جميعاً بالطريقة ذاتها، وجعلتنا ربما لمرة وحيدة في حياتنا نشعر أننا متشابهون. الغني والفقير، القوي والضعيف، العبد والسيد، جميعهم خاضعون لقوة الجذب ذاتها، لا يملكون من أمرهم شيئاً أمامك. شكراً لأنك أمسكت بنا في الاوقات العصيبة التي كنا نطلق النار فيها على بعضنا البعض، كان يمكن أن نفنى منذ وقت طويل لو لم تجبري الشظايا على أن تخفف سرعتها، وتهبط. نحن مدينون لك بالموسيقى، لأن المذياع على الرف، وآذاننا في أماكنها. ومدينون لك بالفن طالما يستطيع الواحد منا أن يضع ريشة فوق لوحة بيضاء ويثبت أصباغه فوقها إلى الأبد. ومدينون لك بالتدوين منذ الغزلان على جدار الكهف وحتى قلم الرصاص فوق الورق المخطط، شكراً لأنك تمنحين المرء فرصة الجلوس إلى طاولة وكتابة الحقائق الكبرى التي ستغير وجه العالم، كحقيقتك. تدين لك ربات البيوت بالترتيب في بيوتهن، ويدين لك الكفيف بعودته اليومية إلى بيته، حين تمسكين بيد العكاز وتمنعينه من الفرار. وشكراً على البيوت. تفعلين جهدك لإبقاءنا على صلة، لكن الواحد منا يحتاج أيضاً إلى أن يشيد أربعة جدارن تفصله عن الكون، ملجأه الخاص، محميته، بيته، ويحب أن يعود إليه كلما غادره ، فيجده في مكانه. يشكرك العشاق لأنك تتلقفينهم دائماً في اللحظة التي يخذلهم فيها القلب، ويشكرونك لأنك تمنحينهم معجزة مساس الآخر، والانصهار فيه. تشكرك دموعهم العاجزة وهي تهبط بسلام فوق خدودهم، وأيضاً لا أستطيع أن أتخيل كيف كان للعالم أن يبدو بلا الدموع على الخد. تشكرك الغيوم لكل الماء الذي كان يمكن أن يتبعثر في الكون بلا معنى لكنك جعلته في هيئة المطر ومنحتنا روعة أن نرقص تحته. يشكرك الرقص، كل الانثناءات البديعة للجسد الناتجة من معادلة الشد والجذب. شكراً لأنك تحتفظين بالجبال في أماكنها ولم نكن لنحب ان يزورنا الجبل هذا المساء. وشكراً لأنك تمسكين بالبحار وتثنينها عن فكرة اسكتشاف الكون البعيد. تفلت من بين قبضتك مرات وتستحيل سونامي ذو شهوة عالية للقتل، لكننا نسامحك لكل المحيطات التي نجحت في السيطرة على شهواتها. يشكرك العطش في كل مرة يهتدي فيها الماء إلى أفواهنا دون عناء. وتشكرك رئاتنا لأنك تمنعين الاكسجين من الهرب من هذا العالم عبر الثقوب المفتوحة. تشكرك أجنحتنا في كل مرة نحقق معادلة الجاذبية ونرتفع. قد يكون الطيران أروع شيء في الكون، شرط أن يكون في ظلك. كان لنا أن نضيع في متاهات الكون المظلمة، لكنك موجودة بالقدر الكافي لتحتفظي بنا في الجو، حتى نصل. يشكرك لاعبو الكرة لأنك الجندي المجهول في كل لعبة يلعبونها، ويشكرك لاعبو الجمباز لأنك تستمرين في اختراع ألعاب جديدة مع اجسادهم كل يوم. يشكرك الأطفال كلما خبروا متعة القفز فوق السرير كصاروخ فضائي ، أو الانطلاق نحو السماء السابعة في أرجوحة، أو سابقوا العمر فوق دراجة هوائية نجحت في الموازنة بين الجاذبية والحرية. تشكرك الفصول لأنك تساعدينها على تبديل الثياب، عندما تقنعين الأشجار بالتخلي عن اوراقها الهرمة، أو تهدهدين بنعومة كريات الثلج المنهالة لتعلن سيادة البرد، فقط لأشهر معدودة قبل أن يجيء صيف يتظاهر أنه كأي صيف آخر لكننا نعرف أن الصيف لم يشبه نفسه قط منذ سقطت التفاحة. يشكرك الأحياء لأنك تحتفظين بالموتى في قبورهم، إلى نهاية الزمن. نشكرك جميعاً لأنك تمنحينا الأوزان بحيادية تامة، من ثقل فؤاده ومن خف عقله. بعضنا يدين لك مطلقاً بوزنه، وبعضنا يدين لك لأنه كلما صعد فوق الميزان أوهمته أنه أخف مما يعرف نفسه. شكراً لأنك تبقيننا على صلة عميقة بالأرض التي ننتمي لها، وربما يجيء وقت تتغير فيه هويتنا وتتغير هوية الارض حتى يفقد أبناءنا ذاكرتهم وينسون من هم وما أرضهم، يمكننا الموت مطمئنين إلى أنك ستبقين عندها صلتهم الوحيدة التي لا يقدر أحد على سلبها منهم. أنهي رسالة شكري هنا لا لأن الأسباب نفدت مني بل لأني رأسي قد ثقل ، الأمر الذي يذكرني أن أشكرك لأنك تمنحين رؤوسنا فرصة القاء ثقلها على وسادة والغرق في أحلام عارمة بجاذبية تقع خارج الفيزياء. شكراً مرة اخيرة لأنك تلهميننا فكرة أن المرء قادر على الارتباط أبداً بشيء واحد على الأقل. في فرحه وحزنه، في صيفه وشتاءه، في صباه وشيخوخته. أبداً.

شهر سبتمبر - Ma ! .

( p.s. من علّم الأشياء أن لا تتكسّر؟ ) – للكاتبة / Ma !

1
لو كنتَ أكثر جمالاً، لما تسرّبتَ حينما تحرّك اسمكَ وخرَج، تقاطيع الحركة شُبّاك احتاج بُعد عيني اليمنى لا أكثر.
كنتُ سأعتادُ مسافة مضيّكَ، وأمضي.
وما كنتُ لأكونَ لوّامة لشَعري المتساقطِ إثْر رفّة.
وكنت سأرقبكَ بعيني غريبْ وصل لنهاية الطريق ووقف ينتظر مقدم الجِّسْر.

السّلام الأول الذي ارتدّ وأحال الفوضى لبُقع حبر متكثِّفَة تُحيط بحواف الرّخام ولا تتكسّر.
من علّم الأشياء أن لا تتكسّر؟
لبيتنا دَرَج عريض وحاد.
عليكَ أن تنتبه حينما تقطعه!
لن يكون ذنبه إن أنتَ سقطتّ ولم تتكسّر!
من علّم الأشياء أن لا تتكسّر؟

اعتدتُ أن أرفع قامة مرفوعة بكَعْب دقيق وعال، وتعمّدتُ أن أشرّع جرأتي وأقشّر طعم الحبْر وأن أقطَعَ..
وأن أقفَ..
وأن أحرّك قدمي شمالا جنوب.
علّه يتقشّر.

2
الكرسيّ الذي أمسكه ظهري متصلّب وموجع.
خشب تسرّبتْ من خَصَاصِه حكايات هواء مقيَّد!
خشب يضجّ بالرّحلات السّريّة التي وجّه لها الخلف اهتماما.
أليس المضيّ إكراما لقدمين تقاطعتا ببطء؟

خشب يشربُ حمرةً ويشرأبّ تلقّي!
حجم ذراعين.
صدر مفتوح.
حبّة خال.
وكلّ هذا مقابل ظَهْر!
يا للتّيه الذي كان قياسا لمسافة مُضيّك.

المرّة التي رفعتَ حاجبا فيها بخفّة عصفور، كانت المرّة التي علّقتك رياشا تحتَ قدميّ ولم أبالي بعُذْر.
. أنا رايحه لحبيبي!

ملأتني رائحة بنفسجية، وثريّا صغيرة تسهر لياليّ ولا ترفّ بانطفاءة.
أرضٌ تعشوشب فوق رأسي، وتتركُ ثقبا.
لون أزرق للجهة التي تعلو قدّي وتُدنيه.

وكنتَ أنت الذي يُقال (كلمة معلَّقَة).
تردّدَتْ فوق وسادتي، وارتدَّتْ تحت جفنيّ!
خطّتْ تحت عيني دعاء مكترثا.

عينك تحطّ فوقي تماما، كملاك نفض ضبابه لأغيبْ.. أسقطْ.. ولا أتكسّر.
من علّم الأشياء أن لا تتكسّر؟

بالله من؟

3
أنا انعدام ثقة الموتى تحت جلودهم.
الجرأة التي لاذتْ بأخيتي، ولم تُفغَم مآقيَّ بفضلها.
الأغطية البيضاء التي شممتها كلّما أخطأتْ والدتي وضجَّتْ بحياة.
الأغنيات التي موسَقَتْ آذان أشقّائي ولم تصبني بخلَلْ.
ما يناشدونه ليحقّقه لهم، واسمي يضجّ بعد لـ...
والله لم يكن يوما!

أنا هدوء عبيركَ في صوتي.
أطرافي برفيفهم الحامي كلّما سمعتُ (تكّ) إقبالك..
وهيهات أن تتريّث!

حيث أنتَ تحرّكا، رفّا، ودبَّ العَطَب تحتَ العظم وقَلى.
حيث أنتَ ضجَّتْ مناماتي بريّا الزّهر.
حيث أنتَ أختنق، ويمتدّ الصدأ في ثقوبي.

ينسكب غديري طولا..

أنا الكَذِب الذي كان، والذي عرّاه نومي غَدَاة امتدَّتْ بجانبي.
لا زلتُ أذكر تضاحكها وأنا غاصَّة باختناقة لَحْد.
لا زلتُ أذكر همسها..

قلتِ لي خ.م.خ مُشْ؟
يا خارجة!

لم يتكسّر النصّ بعدما رفع الهامش بيارقا وسيوفا.
من علّم الأشياء أن لا تتكسّر؟


4
(عيني اليمنى بُندقيّة)..
مركَب ضئيل يتخلّله رَصَاص..
ومن تحت العَيْن لـ(قيَّةْ)..
عَلَامة فارقة..
رسَن منصَّف، شجريٌّ تخشوشن الأطراف على إثْره!
مكَسَّر..
فمن علّم الأشياء أن لا تتكسّر؟

أُطلّ من الواحد لليا.
وأضيع من مسافة نظركَ الآكلة.
وأتآكل ردّة فعلٍ لسؤال لم يأتِ بعد.

عيني اليمنى بندقيّة، وعيني الشّمال يَدْ.
وبيني وبين أضالعك بنادق وأيادي طويلة!
عيني اليمنى بندقيّة، وعيني الشّمال يَدْ.
وتلك العين التي تقع تماما بين عيني وعيني..
سلام طويل نحيل، يمدّ الحروف على ساعديكَ لتقوى قليلا.أقلتُ قليلا؟
قليلُ إذا ما تلفَّتَ نصَّفَه رَصَاص.

جملة لم ترها بعد .. ولم أرها كذلك.
أكاد أُقسم أن أناملي ستتحرّك بشكل لولبيٍّ.
أتخيّل جيدا كيف سأنتهي بمنقار حاد!

تبسَّم.
متى ستعي أن عيني اليمنى بندقيّة؟
وعيني الشّمال يَد؟

هي (الضّوء الأزرق).
وكأن الازرقاق لون ظفائري.

شهر سبتمبر - إزميل .

( نصوص مختارة ) – للكاتبة / إزميل

-1-
لا أعلم عن السعادة..
شفة متورمة ربما؟
ريش ملون أو رمادي.
ألم في المعدة أو ضرس مخلوع.
شيء لزج أو ناعم الملمس.
لا أعلم حقاً
ولا تخبرني.

-2-
ليس وقتاً جيداً.
لكنني لا أستطيع معرفة الجيد أيضاً.
أنه ربما له شكل شوكة
ربما سكين أيضاً
أو منشار.
أنه يؤلمني
يجعلني شرسة
ومنهكة.
هذا كل ما أعرفه.

شهر سبتمبر - restore .

( قصة حجرٍ سابق ) - للكاتبة / restore

-1-
قبل ثلاث سنوات أردتُ أن أصبح حجراً، وأراد القدر الشيء ذاته فأرسل لي المقادير مكتوبةً في رسائل مرقمة ومدسوسة في أماكن متفرقة، كان يُحاول أن يشعرني كم هو الأمر صعباً ويستحق العناء.. ولكني الآن عندما أتذكر أضحك من نفسي، لقد كان الجوّ صافياً جداً وقتها وكانت الإشارات تملأ الطرقات .. ومع ذلك مسحتُ عرق جبيني منتصرة عندما أصبحتُ أخيراً : حجراً مضيئاً أعلى جبل.. قريبة من السماء أكثر من أي شخصٍ آخر

-2-
كم كنتُ لأكون ممتنة للبشر لو أنها بقيتْ بعيدة تجوب في السهول وتزرعها، وتترك جبلي هادئاً
كان سيبدو الأمر مسلياً أن أراقبهم في أوقات فراغي وأضحك، رغم أنه ليس أمامي خيار تغيير القناة ولا إخفاض الصوت، ولكنّ الصوت العالي وقتها سيكون أمراً نادراً وجذاباً كنوع من تغيير الروتين
ولو أنهم أتو لزراعة وردة قريبة مني كل شهر، سأشهد أنهم ألطف كائنات الله

ولكنّ الأمور لم تسير كما تخيلتُ -هي لا تفعل ذلك أبداً!- لم يبقوا بعيداً .. لقد بدأ الأمر كمحاولة لطيفة لزراعة حديقة زهور حولي، وكأني ملكة هذه الحديقة أتربّع وسطها، ثم جلبوا لي صخوراً صغيرة شيّدوا بها معبداً يحميني من آشعة الشمس

لطفهم كان يبدو صادقاً حدّ أني دعوتُ الله من أعماق صرحي أن أعود بشراً
وكانت الدعوة التي ندمتُ عليها باقي حياتي ..

شهر أغسطس - ماجد الجارد .

( بقايا عتمة .... ) – للكاتب / ماجد الجارد
طرق الباب بلطف...ثم دخلت الممرضتان للحجرة بحيوية قائلتان : صباح الخير
- صباح النور .
على الفور ناولتني إحداهما البالطو الرمادي ثم تنحيا غير بعيد..
ارتديت البالطو ذا الأزارير البلاستيكية الكبيرة ثم استلقيت على السرير
قلت بصوت ساخر: المكوك جاهز .
أفترّّ من ثغريهما ابتسامة صغيرة.
تحرك السرير برفق شبه نصف استدارة واندفع ناحية باب الحجرة.
فاح من الممرضة القصيرة رائحة عطر الأناناس وهي تميل فوق جبيني بخصلات شعرها المعطر
هامسة في أذني: سنعيدك لحجرتك مبصرا.
سلكنا الممر الطويل متجاوزين الغرف التي لا تخلو من أصوات المرضى وهم يستعدون للعمليات الجراحية.
أقتربنا منها , أسمع صوتها وهي تتحدث برقة غير متكلفة ضاغطة بسماعة الهاتف على خدها , أشارت بيدها البيضاء..
توقفنا.. أسمع خطواتها الرشيقة تستدير من خلف طاولة الاستقبال المرتفعة
فاجأتني بأن لمست يدها الصغيرة حاجبي الكث: أنت محظوظ من بين العميان لكونك ستبصر الدنيا..
قلت: آمل أن أول ما تراه عينّي عيناك..
ولم تمهلني لأتحدث إليها.
سحبت صاحبة عطر الأناناس السرير متعجلة ناحية المصعد المستقر في بهو المستشفى, انتظرنا برهة, فتح المصعد بابه ودفع السرير داخله ثم الى الطابق العلوي..
أوصلتني الممرضتان لغرفة العمليات.. قالت صاحبة العطر الفواح: أتمنى لك نجاح العملية, لا تقلق لن يطول انتظارك..
اكتفيت بإيماءة صامتة فرهبة الموقف أكبر من أي لباقة كلامية أو حتى مجاملة بسيطة.. المكان يفرض نفسه فهو لا يعرف الحلول الوسط بل الحلول القطعية الصارمة.
أخذتني بقايا ذكرياتي فقبل أربعين عاما خرج ثلاثتهم للدنيا سويا, فالروح لا تسكن جسدا سواه وهو لا يتنفس روحا غيرها, ولم يقاسمهم الحياة إلا عمى وعتمة استحكما وأحاطا به من كل مكان
فتوحدو ثالوثا تمازج بمشاعره ونزعاته الإنسانية.. أربعون عاما من الظلام! أربعون عاما من عالم بلا ألوان! أربعون عاما من العيش بين الأثر الباهت! أربعون عاما من الاختباء خلف الحجب والأقنعة!
أي روح سرت في تلك القرنيتان الغريبتان!! بل أي جسد حواهما!! أم أي عالم أبصرتا!!
تحلق حولي الفريق الطبي وهم يتحدثون اللغة الانجليزية, أنكرت أصواتهم ما عدى الصوت الحاد لطبيبي قائلا: أما زلت ترغب في العملية؟ قلت: بكل تأكيد فلا عوض عن البصر.. قال أخر ذا صوت خشن وخافت:سنحقنك بالبنج من خلال المغذي مما يجعلك تهذي قليلا.. من فضلك أبدأ العد .... فقدت الشعور بأعضائي تدريجيا و ثقل لساني , واحد اثنان ثال.....***
بعد بضع ساعات علا فوق رأسي رنين منتظم متقطع.. ودون أي مقدمات تلاشى وغاب معه الوعي فجأة كم يختفي كل شيء فجئ ... .
مرة أخرى عاد الوعي والرنين! أصبحت قادرا على تلمس كومة القطن فوق جبيني. أدركت بعدها بأني في غرفة النقاهة..

تخلل أذني قرع خطوات : مبروك مبروك !!
قال الطبيب: الحمد لله تمت العملية بنجاح وزرعت لك قرنيتان, اليمين سوداء واليسار خضراء! فنحن لم نجد ما يناسبك من لون واحد ولكن إذا استقرت حالتك سنجري لك عملية زراعة عدسة ملونة حسب اللون الذي ترغبه..
قلت: ولدت أعمى وأبصرت أعور!!
غادر الطبيب غرفة النقاهة .
لم أنم تلك الليلة من الآلام إلا بعد أن تناولت إبرة مسكنة .
وفي الصباح استيقظت . الهدوء يملأ الغرفة ولا أصوات في الخارج, ضغطت بأصبعي المتيبس البارد الجرس المثبت جانب السرير,
دخلت الممرضة وهي تقول:صباح الخير! هل تذكرني؟ أنا التي استوقفتك بالأمس عند مخرج الجناح..
قلت: لا, كم الساعة الآن؟
قالت بلطف: الثامنة صباحا , لا تقلق! فالطبيب سيأتيك بعد نصف ساعة لينزع الغطاء عن عينيك الجديدتين وانصرفت بهدوء .
أردت مسابقة الزمن فأنا الأكمه الذي لم يرى قط وحينما رأى صار له قرنيتان مختلفتان ليس في اللون فحسب وإنما في المصدر! فالخضراء من إنسان غربي لجمعية غربية تكفلت بأن صممت برنامج تدريبي لتأهيلي للعيش في عالم البصريات بما فيه من زوايا متعددة, وأما السوداء فمن أم شرقية أرغمها الفقر لبيع قرنيتها مضحية بها لتأمين قوت أبنائها..

فهل تتغير الدنيا بعيني؟! وهل سأراها كما رآها المتبرع الغربي أم الشرقي؟!

شهر أغسطس - سيما .

( حياة بقوة المُخيلة ) – للكاتبة / سيما
*
ولدتُ أول الثمانينات, الزمن الذي لفُرط رهبته وسرّيته لن ينتمي لأيّ حقبة سابقة أو لاحقة عليه. والذي سيُبقيني إلى الأبد محبوسة في الصناديق التي صنعتها أمي, مسامير وصفائح حديد وأقفال. محميّة في ظلّ السجان, طليقة من الأذى إلا أذاه معوزة على الدوام إلى رضاه ووجوده والأسوأ على الإطلاق حبه غير المشروط؛ الحبّ الذي تبدى على هيئة اشتراطات مستمرة: نظام يوميات صارم وفُسح آخر الإسبوع ووجبات من الحليب والكعك وواجبات رياضيات تُطيّر دموعي في الهواء.
*
كنتُ بِكرها, ولم يكلفني ذلك ثقل آمالها فحسب, بل حمّلني المسئولية تجاه كلّ العثرات وسوء الحظ التي لحقت بحياتها. وكنتُ هشّة, مُكرَبة ومُقلقلة بحيث أنّي بدوت خيبة مضاعفة. في حين كانت هي شديدة النزاهة للصورة التي تخيلت حياتها عليها: بيت كبير ومهوّى بلا مسحة غبار, أولاد نظيفين ولامعين ومجتهدين في المدرسة, وزوج... حسناً إني لم أدرك أبداً شكل العلاقة بينها وبين أبي, بل إنه بدا والد لنا جميعاً كما بدت هي أم لنا جميعاً, نحن ووالدي.
*
لقد أبقتني تحت رمشيها الساحرين, مُثمنة في فساتين منفوخة بطبقات من التول ومذهّبة العنق والكفين وشحمة الأذن, برهان براعة حقيقية في تكوين ثم تنشئة طفلة "على الأصول" لكنها تخفي خراقة لا حدود لها, بحيث أنها كانت دائماً بحاجة إلى إشارة من حدّي رموشها: حادّة "لا تتواقحي", ناعمة "إنّك جديرة بالثناء", ضبابيّة "إنك لا تحوزين ما يكفي من الرضا" جانبية "انتبهي يا بنت" متعالية "لا تستحقين محبتي". ولذلك شعرتُ دائماً أنّي موضع تقييم, وأن عليّ أن أجتهد حتّى الإنهاك فيما لا يستحق إلا القليل فقط من الجهد.
*
كانت أمي مهووسة بشيئين: الروتين اليوميّ وَالعيب الاجتماعي؛ وإذا كان الأول تخرقه نهايات الإسبوع والمرض فإن الثاني سيبقى عصيّاً على الخرق في حضرتها. في نهايات الإسبوع كانت تتوقف حفلة شدّ الشعر و"باشري شرب الحليب على الفور" إذ تتحول أمي إلى كائن رضيّ ألطخه بقبلات وقبلات من اللعاب والحليب, فتمسح خدها وتضحك. وبعد سنوات مما سأعده إنهياراً للنظام الذي أحكمته على حياتي, كنتُ سأستمر وفية إلى تعقيدات روتينها في استيقاظي المبكر, وإلى وخزات العيب إذ أختبئ في الحمام كلما احتجتُ إلى نفخ أنفي في المناديل.
*
أدركُ الآن, وأنا بعيدة عنها لكن واقعة مباشرة تحت سطوتها, كيف تلاعبت بي بين أصابعها, وكيف حرّكتني في الحيز الذي أرادته دائماً: مُطيعة ومنضبطة. وأحمل في داخلي حسداً لا يكفّ عن التوالد إزاء أخواتي الصغيرات: حُرّات من توقعاتها, خارجاتٍ عن إرادتها, مناكفات, ساطيات اللسان ويحملن رعونة فتيّة. وقد حظين ليس بمحبة أمي فحسب, وإنمّا بإعجابها المُخدَّر بهن, بوصفهن ذوات مستقلة. في حين سأبقى للأبد مربوطة إلى ذيلها, متشبثة بأصابعها, مُؤتمرة بأمرها ومنتهية بنهيها. والأشد وطأة على روحي: أني سأبقى للأبد تواقة إلى قبولها, عُطشى لرضاها, وفي سبق محموم لنيل إعجابها, مضمار تلو مضمار, جزرة تلو جزرة, قطعة سكر تلو قطعة سكر.
*
عشتُ برفقتها حريات متفلتة في الخميسيات التي عبرتنا, حرية بوظة الحليب وحرية السمك المملح وحرية الجلو بالفاكهة المعلبة وحرية الشوكلاتة مُذوّبة على المدفأة. لكن ما إنّ تفلت صدري حتى راحت تحبسني عن الأكل وتقيمني من على السفرة. وذلك لم يعني أني كابدتُ الجوع. ما كابدته كان فورة كوابيس لاذعة, كوابيس طبقات من الدهن السائح المقزز في ظهائر حارّة ودبقة. كيس أرز, كيس بطاطا, كيس بصل؛ السمنة باعتبارها شرّاً محضاً. توقف ذلك كلّه حين أخبرتني, برفق متناهي, أني آكل مثل بقرة.
*
أحبّك حبّاً جماً, أحبك أقل من هذا, أحبك أكثر من ذاك, لا أحبك على الإطلاق. اطلعي درجة درجتين. انزلي لآخر السلم. اطلعي. انزلي. اطلعي وانزلي. اطلعي وانزلي. اطلعي وانزلي. راقصة على السلالم. أراجوز على الدربزون. دمية كونكان لماما. سيزيف وصخرته لماما. أمي التي لا تملك حظيرة. وكان يؤذيني أشدّ الأذى اضطراري لنزول السلم دفعة واحدة وصعوده درجة درجة فيما يشبه سباق تتابع. قبلة. قبلتين. عناق. هذا مهيرج اكليه, محد يشاركج فيه. توته يااا توته. مرحبا يا حيّ هالقبال. هلولو نامي. نامي نومة هنية نومة الغزلان في البرية. وإن كان من عين أبوها اطلعي. شببتج بالسميع العليم. حرستج باسم الله. ولباسج حرير ومعاضدج ذهب. كله من خير ابوها. درجة درجة درجة. ثم هوووب. لا تنزلي شفرات التكييف مجدداً. آخر السلم. اللعبة التي حتّى لما بعد الغد باقية. بيادق مسرنمة. لاعب حذق. خطوتين للأمام أو للخلف. لا خطوات جانبية.
*
سِنان فـ طمطوم ثم ماروكو. شتاءات شيّ البطاطا الحلوة فَشيّ الكستناء ثم شيّ أكواز الذرة. الأرصفة بالأبيض والأسود فـ بالأصفر والأسود ثم بالأبيض والأسود. الثمانينات فـ التسعينات ثم الألفية. كنتُ سأهرعُ إليها "عضّتني بعوضة". سأدور حول جذعها أمام الموقد "علميني المهلبية". وسأنام على فخذها "حدثيني عن الحلم الذي رافق حملك بي". وستخبرني عن الحكاية التي أضفتْ بالكثير من المخيلة والتكرار طابعاً خرافيّاً على وجودي: حلمتُ يا ماما أنّ جدتك أعطتني عباءة, وكانت باهتة السواد وعتيقة فرددتها إليها, فقالت آنذاك في الغد سوف تصبح شيئاً زاهياً. ولمّا رأيتكُ أول مرّة فكرت أنه لا يمكن لطفلة بمثل بشاعتك وتغضنك أن تخرج مني, لكنك في الغد تحولتِ إلى أجمل أرنبة في الدنيا.
*
وفي سورات الغضب أو حصر الحزن سأعرف كلّ ما أحتاجه عن أمي. رغم أنّ كليهما لا يتفقان مع العوق الذي كنتُ عليه. ولا أيّ منهما يدخل في الحيز "الصحيح" ضمن قائمة: يجب/ لا يجب, مُرضي/ مُسخِط, درجة درجة/ آخر السلم. السورات نافرة عروق الصدغ, سطحية الأنفاس, ضيقة البؤبؤ, متعرقة وراجفة جراء مَقلَمتي الضائعة (المسروقة؟!). والحصر تحت طبقات الألحفة, معقود ومقوس ودامع ومكلوم وبردان يسترجع جدول ضرب الستة المنسيّ ويتلمس آثار المساطر الستّ على كفه. كانت أمي في الحزن, وبدرجة أقلّ في الغضب, تأخذني بين ذراعيها, وتطلب مني بحنان مُبهِظ الوشايةَ بأولئك اللذين أثقلوا على طفلتها بمثل هذه الكُلفة. ولما كنتُ شديدة الكتمان, كانت تُسرّ في أذني بأنّ الله سيأخذهم جميعاً إلى جهنم.

شهر أغسطس - footnote .

( مختارات من وسواس – الأرشيف ) – للكاتبة / footnote

النص الأول

كلما فتحت بابا , سألت :
ماذا أفعل بكل هذا الطريق؟
-أفكر أني سأستطيع به حياكة معطف طويل و أسود
أعلّقه على الباب حتى تبدو الجهة الأخرى فوّهة
-أو أن أقطّع جثث الناس الذين وددت أن يذهبوا
أفرّقها لأجزاء صغيرة ,
ثم أتصالح مع رائحة عفن جثثهم حتى يبدو ذلك كاعتذار
-أن أجمّع الحجارة و أصنع بها كرة أرضية صغيرة
أربطها في قدمي حتى أملك كل الوقت لأفكر بجدوى الخطوة قبل أن أصنعها
-أن أكسر الرجل الرابعة من كل الكراسي حتى لا أجلس قليلا
فتستدلّ علي الأفكار السوداء
-أن أنعي جميع الموتى الذين مشوا إلى طريق القبر وحدهم
و أن أبكي عليهم بصدق كأنما أبكي على عزيز
-أن أجمع الدماء الصغيرة التي فاضت من جروح اليد و القدم
و كان مآلها أن تتشبث بمنديل في سلة المهملات
و أبرّئ العالم من تهمته
و أشرح لها بصدق أنه لا توجد مؤامرات من أي نوع لتصفيتها ,
إنما سوء الحظ هو السبب الوحيد الذي جعلها تمرّ في ذلك الجزء من الجسد
في ذلك الوقت بالذات
-أن استرجع وجوه كل الذين عرفتهم ثم ماتوا,
و أتخيّل أشكالهم الآن بعد اعتداءات مخلوقات الأرض,
و أركّب مذاقات مختلفة في رأسي حتى أصل بنجاح
إلى مذاق الجثة
-أن أجد شكلا لكل شعور ,
حتى يمكنني أن أغضب عليه
فأرى الصداع أياد ٍ تظنّ شعري مستعارا
تحاول اقتلاعه بحماسة و جهد
-أن أعقد محاكمة طويلة مع الهواء ,
على فوضويّته
و تمرير الغبار صديقه الحميم
من تحت ردف الأبواب و النوافذ التي على وشك أن تغلق
و على تظاهره بأنه لصوص يحاولون فتح الباب
حينما أكون وحدي في الليل
يمكنني أن أصنع من الغابة وسادة صغيرة و من السماء فستان
و أن أنحت الجبال أقلاما أنيقة ,

سيكون أي شيء أسهل من أن أخوض هذا الطريق,
و يدي فارغة ..


مختارات قصيرة

-
لم أدخل حياتي قط
كنت فقط أحوم حولها
-
أحب صوت الكارثة ,
بصوتها المهذب
تقول
إن العالم يسير بخطوات جادّة إلى الخلاص
تمرّ سيارة الإسعاف . لا أتخيل جثّة
أتخيل كرسي فارغ
و هواء
-
خرجتُ اليوم صباحا
فنعق فوق رأسي غراب
شكرتُ اليوم على صراحته
-
بهذه الطريقة أحتفظ بمستوى مقبول عن الآخرين
انظر للجمجمة ؛ فيبدو لي أي وجه أجمل دائما من جمجمته .
-
ما تودّ الثمار البيضاء
من الداخل
شرحه لنا
كلما خرجت نحو العالم بشكل مكشوف :
هذه الأرض تسير حثيثا نحو العتمة .
-
أحسد السوء على طمأنينته ,
لا يخاف أن يفسد أكثر .
-

شهر أغسطس - عبدالوهاب الملوح

( هل خان لوتريامون مالدورور ) – للكاتب / عبدالوهاب الملوح
فَاتِحًا ذِرَاعَيْهِ عِنْدَ الجِسرِ
بِهَواجِسِه يُسْعِفُ الْكَلاَم مِنْ إغْماءَاتهِ
مَا حَاجَةُ اللَّغَة لِلْعِطْرِ وأَحْمَر الشِّفاه
مَاحَاجَةُ النَّشِيدِ لِحَمَاسِ الكورس
ِسَيَتَوَقَّفُ الدُّوري عَنِ الغِنَاء
يَحُطُّ على كَتِفِ الفرَاغِ ؛ يقَلِّلُ مِن مَلَلِ الهواءِ
فِي الأثْنَاء
ثمة طِفْلٌ يَلْبَسُ قَمْيصا من ضَبَابٍ غَطَس فِي النَهْر ؛ يَغْرَقُ فِي ضِحْكَتِه
أَلْقَت شَجَرَة الأكاسيا ظِلاَلها لِنَجْدَته
دُونَ جَدْوى
فاحْتَفَل الصَّمْتُ شَمَاتَةً في الْمَعْنى وَهْو يَتَسَكَّعُ شَحَّاذًا يَشْتُمُ اليَقِينًَ
مُنْذُ حِينٍ قَدِم مِن جِهَةِ النسْيَان أَغْرَابٌ
جلَسوا عِنْد الجِسرِ وانشغَلُوا بإعْدادِ أنطولوجيا للصَمْتِ وَهْو يُسْعِف الكلام
قَبْلَ أن
يَتَنَكَّر لوتريامون لمالدورور
قَبْل أَن
يَهْرَمَ الهواءُ
قَبْلَ أَن
تُفكر فيرجينيا وولف في الانتحَارِ
قَبْل أن
يَتَآمر السَّاسَةُ عَلَى الشُّعَرَاءِ
قَبْلَ أَنْ تُنْجِزَ الْخُطْوَةُ حَتْفَهَا
هي خُطْوَةٌ
تَصْعَدُ الْوَقْتَ عَموديا
خُطْوَةٌ أُخْرَى تَكْسِرُ الْبَوصلةَ وَتَنْجُو من ميتافيزيقا الوُصُول
لَن يَهْدَاَ الصَّمْتُ الآن وَهو يُفَاوض هَواجِس الفراغ بِشأْن حُزن الموسيقى
وَهْو
يُعَدِّدُ التَّأْويلاتِ حَول خطوة لن تكتمل
وهو
يُعِدُّ مَكَائد للسراب
أَفْهَمُ أَن تَكُون غَامِضًا ومَشْبُوهًا
أَيُّها الصَّمْت ُ
أفهَم أن تكون مريبا
كبَدَوِيٍ يَحْمِلُ أَقْفَاص دَجَاج بََرِّي وَيَدْخُل عَلى وَجْه الخَطَإ مَطَار أورلي صباحا
وَلكنها خُطوة لابُدَّ منها لأكبُرَ
قََالَ طِفْلٌ صَغِيرٌ
قال شاَعِرٌ مُسِنٌّ وَاقِفٌ عِنْد الجِسْر
خُطْوَةٌ أُخْرى تُؤكِّدُ إِنِّي مازلت صَغيرا .

شهر أغسطس - {}VENUS{} .

(نصوص مختارة ) - الكاتبة / {}VENUS{}

1
رأسي
1
لا أعرف كيف تتحمل رقبتي كل هذا الثقل
فتحمل رأسي دون أن تتصدّع و تهوي

2
عنكبوت تحتّل جمجمتي
وتطعم دماغي لصغارها
في أول باب لحكايتي
تجد قطعة من قميصي
تأكل نصفها
وتترك نصفها
ليلتحف بها صغيرها المدللّ

3
إخطبوط ملتصق بسقف جمجمتي
اذرعه تتلوى
تنفذ من تجاويف رأسي
وتلتف حولي
فتعصرني

3
رأسي؛
موسيقى تتدفق من بين أصابع جنيّة صغيرة
تلهو بقيثارتها في غابة مسحورة

4
رأسي؛
تِنْين تجمّد اللهب بين فكيّه

*
*
*
2
وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ

وكَأنَّه لمْ يَكُنْ
كَأنَّ ذلِكَ الحَديثُ صَفْير
وَكأنَّ تِلْكَ الأيْامُ عَدَم
تُرُوسٌ من فولاذِ الذِكْرَيات تَدْور
وعَقارِبٌ تتبَعْثرُ فَوْقَ مِيْناء الدَّهْر
هَواجِسٌ أُرَبِّيْها في رأسي
لأقَدِمَهَا قَرابْيناً في عيدِ الوَهْم
علَّ الجُبِّ يَفيضُ بِخَبَر

أخْتَبئُ في فِرْاشِي
ويَنْهَدِلُ قَميصُكَ المَشْقوق على جَسَدي
ويَتَدلّى قِرْطيَّ على وِسْادَةٍ
تَحْضِنُنِي مُنْذُ أيْامٍ أو أعْوامِ – لا أدْري –

أنْا مَنْ إبْيَّضَتْ عَيْنَاها مِنَ التَحْدِيقِ
في أسْمَاءِ و كُنْى الغابِرِين
أنْا من تَكَدَّسَتْ أيْامَها في الرَحْيلِ
أنْا مَنْ صَارَ عُمْرَها هَبْاءً مِنْ ضَوءٍ مَنْشور

لازِلْتُ أشْحَذُ شِفْرَةَ الوَقْت
لأُقَطِّعُ سُبُلِيَ إلى نَفْسِي
مُذْ أنْ " جَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ "

شهر يوليو - سنبلة .

( لا أوافق على الشـروط أعلاه . . ) – للكاتبة / سنبلة

I
الحقيقة التي يجب أن أعيها تمامـًا ، أنّي لا أندم .
أنا ملعونة ، أُقدِم على الخطر بنصف قدم ، وستمائة دقة قلب ، ومليون رغبة .
أضع تقديرًا للعقوبـة فتتضخّم كل ما استرسلتُ في المغامرة ، والمصيبة أقع في فخها منتشيـة .
تمنحني بساطة أعذاري وتفاهتي ، فرصة الصفح عني .

II
1- حديثي شوارعي ، لست بالمتملّقة ، ولا حتى المهذبة على أقل تقدير .
2- أسير وفق النظام الذي هو في عرفي " أن لا يبقى من عمل اليوم فائضًا للغد "
3- لا يهمني أن أسير على الخط الذي يسير فيه كل النّاس ويتوجّب علي السير فيه ، يهمني أن أصل بأي طريقة مشروعة .
4- أنجز الأشياء الكثيرة بوقت سريع ، لأني أؤمن بأن اسمي يجب أن يُحجب عن كل عمل تنهيه يديّ .
5- أرمي بالكلام السيئ على الناس الذي أُحب ، وأتشنج عند الكراهية .
6- صوتي العصبيّ إذا فقدت السيطرة ، مقرف ، أنا بالمناسبة أخافني إذا " عصّبت "

III
فيما يتعيّن علي أن أكون معجبة بوسامته النقيّة ، وتهذيبه الجمّ ، وسحر حديثه إذا نطق .
فأنا لا أحب فيه ما ورد أعلاه .
يروقني حين الغضب ، وقتَ يمنحني أعقّ العبارات في حُرُم الميثاق الغليظ .
حين يستغرق في البحث عن شيءٍ ضائع ، ويلعن الساعة والحظّ والأيام والأمكنة .
حين يغسل وجهه صباحًا بتأفف ووجه عابس ، ووجوم .
حين أقرأ رسالة منه على أثر شجار ، وأجده يتعثر في كلمة -إملائيًا- لغضبه .
حين يسألني أن أخفض صوتي مشيرًا لي بيده وهو يهاتف أحدهم .

IIII
- لا أحب الجماعة ، أكره العمل الجماعي ، لا أوافق عليه .
أنا عنصرية تجاه فرديتي ، وأحبّ أن أرددّ هذا الأمر كل ما سنحت لي الفرصة .
يرعبني كيف أن نتاج النّاس ليس ملكك ، وأنه ليس بإمكانك تقويم أصابعهم إذا ما أعوجّت
فيما أنت في المقابل محاسبٌ على نتاجهم . تتجلّى أنانيتي وسذاجة تفردّي في هذا الأمر . وكلّما
لاحت سيرة الجماعة ، حملتُ على عاتقي حمل العمل عنهم أجمع .
بالمناسبة أنا لا أثق بأحد فيما يخص إتقان العمل ، ربما كان هذا السبب الذي يطارد نزوعي نحو الفردية .
جرّبت أن أستند على كتف أحداهن يومًا وفشل الأمر برمّته .
لذا أنا لا أوافق على شروط الجماعة ولا أوافق على الجماعة ، ولا أوافق إلا على نفسي إذا كان هنالك حساب.

IIIII
- يخنقني الأدب الجمّ ، يُمسِك برقبة ذوقي ويلفّها بعصبية . وأخاف ..
أخاف أن تتمخّض محاولاتي برداءة ٍ شوارعية مهترئة .
تصغر عيناي كلّما شعرت أن النّاس ينتظرون منّي أدبًا مقابل ما يفعلونه هم عادةً .

IIIIII
تنام الحقيقة دهـرًا ، إذا لم يوقظهـا لسانٌ جسور . .

IIIIIII
أنا معها – مع القوانين- غير ألاّ تكون مشروطة .
أخشى كل شيء يعلّقني من أطرافي ويتسمّر في وجهي ويردد ما أمليته
-موافقة-يردده أمامي .
أخشي أشيائي تُعرض أمام عيني على سبيل السخرية وينال من يريد النيل منّي بطريقة رخيصة .
فيما يغرق البعض الآخر بتمثيل حالة ضعف كنت قد وقعت تحت سيطرتهـا –سلفًا - .
أخشى عقوق الذاكرة تُجزّأ رغباتي القديمة وتصنّفها على ما تودّ .
أخشى بلادة أطرافي حينما يتوجّب عليها أن تقف في وجه العقوق ،
فـتتشنجّ ببلاهة أمام الضعف .
أخشى وشاية النفس بالنفس ، أنت تحدّث نفسك عن نفسك تلك التي تخجل منها ،
وكيف نبدو جماعات داخل أنفسنا ، عوالم تتفرّق ويُسيّد التخاذل حينها ..

شهر يوليو - فنجان قهوة .

( لعبة ما ) – للكاتبة / فنجان قهوة

حمام أبيض كثيف كسحابة مبعثرة .. طريق ضيق .. و أشباح أطفال تزاحم الحمام على الوصول للسماء
للأطفال طريقة الحمام فى الطيران .. كل يعرف ذلك عدا الحمام نفسه .. فهو لم ير جناحات هؤلاء الصغار من قبل حتى يدرك ذلك .. الحمام عقله صغير و لا يحوى الكثير .. عنده الطيور لها مناقير و ريش .. و الطير بالأجنحة
.........................
أن تفكر أثناء الحلم أنك تحلم .. أن تفكر بالحلم نفسه على أنه حلم .. ليس هنالك عذاب أكثر
فالحلم جناجان .. أن تمتلك الجناحين دون أن تطير .. و تجلس فى ركنك الدائم .. تضم جناحيك خلفك .. تربع يديك و قدميك و تحلم أنك تطير دون أن تتحرك من ذلك الركن .. إنها بالفعل مادة العذاب الخام
فإن كان لابد لك من جناحين .. فليذهب ذلك الوعي إلى الجحيم المطلق
............................
هي تعلم القواعد جيداً حين تلعب .. من قال أنها لا تعلم ؟؟ .. هل شكلها يوحى بالطيبة الغبية ؟؟ .. هل تبعث في الصدور سذاجة مطلقة ؟؟
لا شئ يمنع أن تجتمع الطيبة و السذاجة بالمعرفة .. فقط كل له طريقته في التلقي و الصياغة العقلية التي سوف يحفظ بها المفردات في ذاكرته ليستخدمها وقتما يحتاجها .. يكفى أنها قالت أنها تعرف القواعد .. فلم كان يخاف كل من قرر يوماً اللعب معها أن يكمل اللعب ؟؟
كانت تنتقى أطفالاً يشبهونها .. أو هكذا كانت تراهم .. فللعين أحكام ليست لها علاقة بالمنطق .. قد نرى أشياءً و ندركها حسبما نرى و هي قد تكون غير موجودة بالأساس .. فالعين تصنع أثواباً وهمية .. و تلبس من تشاء باللون الذي تشاء .
طفلة زرقاء كانت .. ترى أطفالاً زرق فتقرر اللعب معهم على الفور .. كانت تخشى الألوان الأخرى .. و لا تهتم كثيراً إن كانت لهم أجنحة مثلها أم لا .. يكفيها أن لها جناحين كبيرين .. ستأخذ من تشاء منهم حين تريد من يؤنسها في الحلم .. تعلم أن جناحاها قويان و مطيعان و يستطيعان حمل الكثير .. هل هنالك ما يدعوها للخوف إذن ؟؟ .. هل هنالك ما يدعو لخوف أي إنسان ؟؟
.......................
لم تكن تعرف أن الأطفال الزرق كثيرون لذلك الحد .. لم تكن تعرف أنها ستضطر لحمل الكثير معها .. كانت تخشى أن تنسى أى طفل أزرق على وجه الأرض حين همت بالحلم .. لكنها حين صعدت للسماء تثاقلت على جناحيها الحمول .. و هي كانت تظن أن لبعضهم جناحات و لا ينقصه سوى أن يتجرأ على السماء .. و ليس عليها سوى أن تحمله و تطلقه .
و حين تفتت .. أصبحت كالسحابة المبعثرة .. كانت كل قطعة منها حمامة تحمل طفلاً أزرق بقدميها .. لم تقو الحمامات على حمل الأطفال كثيراً و خاصة أنهم أصبحوا يثيرون الشغب فى السماء .. يركلون الهواء برعونة شديدة و يتملصون من مخالب الحمام الرقيقة التي تحملهم .. يصرخون بصخب مزعج .. يفزعون الملائكة .. و حين نزل بهم الحمام على الأرض .. كان عليه أن يطير ثانية بعيداً
....................
سحابة مبعثرة .. طريق ضيق يملأه الغبار التي خلفته خطوات عبثية .. و أشباح أطفال سوداء تنبعث من أقدامهم رائحة تراب الأرض حين يختلط بالدماء
....................
من قال أنها تعلم ؟؟

شهر يوليو - كريم سامي .


( أورجازم ) – للشاعر / كريم سامي

_ على المفترق نهدر أعمارنا .
_ أستلذ السقوط لأعود إلى براءتي .
_ كل ما أكتبه شعرا أعيد كتابته بصورة تقريرية
" مازالت أقامر على الحمقى " .
_ الأجوبة التي يحلم بها كونديرا
هي سأمه من المنفى .
" استبدال قطيع بأخر " .
_ نكره الثبات و لا نحتمل الفوضى .
_ نحارب المسافة بالوهم .
_ ما صرته كان مخاوفي .
_ كل ما أعرفه أن المعرفة مستحيلة .
_ الوهم الأكثر عنفا هو الذي تعيشه دون أن تعرف .
_ الأكثر جمالا هو الأكثر احتياجا للشفقة .
_ الثبات يمنطق الخرافة .
_ الفنان الحقيقي أجمل من فنه .
_ الجميل في اليقين أنه يثير التساؤل .
_ لا أريد أشباها , لا أريد أن أتذكر نفسي .
_القبح يكشف الجمال .
_ بمقدار جمالك تتألم .
_أنصحكم لأنصح نفسي بطريقة غير مباشرة .
_ لا شيء يفوق كراهيتي للصمت قدر الحديث عن المنطق .
_ حين لن أكون مضطرا , سأكون .
_ البديهي غايتي .
_ أكثر ما يبكيني حلو الحديث على لسان الحمقى .
_ الفنان هو من يعيد خلق البشر .
_ إساءة التأويل قصور .
_الشعر أصعب طريقة للحياة .
_ غرفتي هي المدينة الفاضلة .
_ الومضة : اختزال الأبد .
_ أبصق عليكم بدافع الحب .
_ كثيرا مما أكتبه ملوث
لأتناقش مع أفكاري .
_ نغضب لنتذكر عجزنا .
_ الكتابة محاولة لتخيل الثبات .
_ رديئا : لألفت الانتباه , لأحن إليّ , لحاجتي للتوبيخ .
_ اللاوعي : طفولة الوعي .
_ الرجل الذي أحترمه
هو الرجل الذي ليس بمقدري أن أقول " لقد عرفته" .
_ الحرية : ألا تراقب نفسك في عيون الآخرين .
_ الناقد الذي هو أنا يكرهني .
_ الزهو : استبدالك الأخر بنفسك .
_ الزهو : مقبرة أو حتمية .
_ البحر : استراحة من الأنا .
_ المجاز : أن تبصر ما تراه .
_الحب : البحث عن جدوى لكل ما لا جدوى منه .
_ الانتحار : كي نرحل حالمين .
_ الانتحار : إعطاء الخرافة فرصة أخرى .
_ اللاشيء : الشيء الذي لا نعرفه .
_الخلاص : غاية مشاع .
_ الفشل : أن تدرك النجاح .
_ لم أراكِ و أنت ِ قادمة , كنت أكتب لكِ أغنية .
_ كل صمت يحدثني بطريقة ما .
_ أنا أقبلها , إذن أنا موجود .
_ الكون جوقة تشدو : أنت رجل وحيد .

شهر يوليو - هجومي .

( أحياء عند جمهورهم ) – للكاتب / هجومي

عزيزي جرير :

مضى وقت طويل منذ أن سمعت شيئا عنك.. أردت أن أخبرك أني افتقدك كثيرا أيها الرومانسي.. اشتقت كثيرا لسماع أخبارك وأخبار والدك المعتوه.. هل تعلم.. مازلت أتذكر أحد تعليقاتك على والدك حتى الآن.. تلك القصة التي قابلت فيها احد الشعراء الناشطين.. وأثناء تجولكما بقرب بيتكم ظهر والدك البخيل وهو يستلقي تحت الماعز ويحلبها تجاه فمه مباشرة خوفا من أن يهدر شيء من الحليب.. عندها أطلقت يا جرير تعليقك الخالد عن والدك عندما قلت لصديقك الشاعر: أترى ذلك العجوز الذي يستلقي تحت الماعز والله لقد فاخرت به أربعين شاعرا فحلاً وهزمتهم..

لم يحدث أي شيء مهم منذ آخر رسالة أرسلتها إليك.. هل أخبرتك.. مكتبة مشهورة تبنت حمل اسمك.. هيا لا تكن مغرورا.. اعلم انك تريد أن تكون (أكثر من مجرد مكتبة) لكن تذكر.. كثير من الشعراء المهمين اندفنوا دون معلم يحمل ذكرهم.. عموما سمعت مؤخرا بيتك التشاؤمي الذي تقول فيه: هذا زمانك قد ولى أنا زمني.. وأردت أن أقول لك زمان تشرف بمعرفتك يستحيل أن يولي يا صديقي
بانتظار ردك على رسالتي
خالص تحياتي
Your loyal dog
Aymn



* عزيزي الفرزدق:

أين أنت يا من يعرف الشعر وطأته.. اشتقت لك كثيرا.. لن أطيل في السلامات.. لكن وردتني معلومة مهمة عنك.. يقال إن السبب الرئيسي وراء عدم حصول شعرك على ما يليق به من تبجيل هو انك تغوص خلف الخطوط الحمراء كثيرا.. الم أخبرك كثيرا أن تنتبه لهذه النقطة.. لكنك عنجهي لا تحفل إلا برأيك.. عموما احمل خبرا جيدا.. حتى هذه اللحظة مازلت سيد مجال الفخر في الشعر.. وبيتك هذا الذي تعرف البطحاء وطأته يزداد تألقا يوما بعد آخر.. هل أخبرتك.. شاهدت مدرسة في العليا تحمل اسمك.. أعلم أنك تسأل عن جرير والذي حصل عليه.. اعرف نزاعكما اللانهائي.. لقد حصل على مكتبة.. هيا لا تبتئس.. لا وجه للمقارنة بين مدرسة ومكتبة.. هل تعلم.. بدأت أتشوق كثيرا لمساجلتك القادمة مع جرير.. خصوصا بعد الأخبار الجديدة.. لماذا لا تباغته ببيت ناري يقول: إن كنت مكتبة فقد قابلت مدرسة..
في الختام أعدك بإرسال خطاب للمسئولين لدراسة تسمية جامعة باسمك عوضا عن مدرسة ابتدائية.. عندها ستسحق جرير لا محالة
بانتظار ردك
Your loyal dog
Aymn




* عزيزي المتنبي:

كم افتقدك يا صديقي المغرور.. أمازلت على جنونك.. تدخل على الحكام الذين ينتظرون ثناءك لكن يفاجؤون بأن أفخم أبيات المدح في القصيدة لم تصرف لهم بل بذلها الشاعر لمديح نفسه.. نعم خذوا سفاسف المديح بينما آخذ أنا أبيات مثل:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي.. أتظن أنهم لم يلحظوا ذلك.. أعلم أنك لا تهتم لهم وهذه هي مشكلتك.. وردتني أخبار مهولة عنك.. سمعت انك تجوب الأرض من حاكم لآخر بحثا عن أعطية معينة.. أعطية تفوق القصور والخيول والمال والجواري..
يقال إن المتنبي لا يرضي غروره سوى الإمارة.. أنا استحق الملك.. و لأنني أفضل شاعر مر عليكم يجب أن أعطى إمارة.. هذه هي الفرضية التي سمعت انك تسعى في تحويلها إلى نظرية .. ووجهة نظري أنك مغرور.. لكنك تبقى الأفضل رغما عنهم كلهم.. لقد دفنا الشعر في قبرك يا صديقي.. وليعلم الحكام الذين تمننوا عليك بإمارة ما أننا لم نعلم بوجودهم إلا من خلال شعرك.. فمن أجلي ومن أجل ملايين معجبيك أنظر إليهم وقل لهم: من الملك الآن
بالمناسبة.. هل أن تعلم أنهم أطلقوا اسمك على أحد الأسواق شرق الرياض.. عموما أنت بالذات لا أتوقع أن يرضي غرورك شيء حتى لو كان السوق شمال الرياض.. بالتوفيق في مهمتك الشائكة.. كلامك يدينك فأنت من قلت: على قدر أهل العزم تأتي العزائم.. فلا تيأس أبدا..
اخبرني بالمستجدات
بانتظار ردك
خالص تحياتي
Your loyal dog
Aymn



* عزيزي عنترة بن شداد :

حتى هذه اللحظة لا اعرف كيف فعلتها.. اعلم انه في قاموسك كلمة العرب مرادفة للعنصرية والعصبية.. ومع ذلك فعلتها.. لأنك راهنت على حسهم الفني.. فعندما يتعلق الأمر بالفن هم عادلون.. سعيت خلف الجائزة الكبرى.. في الجاهلية.. كان العرب يعلقون افخر أنواع الأدب الذي تناهى إلى أسماعهم على أستار الكعبة.. سموها المعلقات.. أنت يا من استطعت ابتكار تحفة فنية خالدة يجب أن تحظى بعرضها في اشرف مكان نملكه وهذا اقل ما يمكن أن نقدم لك.. هكذا كان تقديرهم للفن..
والآن.. هل سيرضى أولائك العرب العنصريون للنخاع بان يعلقوا قصيدة عبد نكرة..
نعم..
لأنه جاء ببينة شعرية لم يأت بها احد من قبله ولا بعده.. رغم كل التحديات فعلتها يا عنترة.. ولم تحتج لعلاقات الحسب والنسب من أجل أن تأثر في المتذوقين.. راهنت على الفن والفن فقط وهذا شيء يبهرني دائما..

مع الأسف لم أجد معلما في الرياض باسمك سوى شارع صغير في حي النسيم.. لا توبخني.. سأكتب للمسؤولين في أمانة الرياض فورا.. لن نرضى بأقل من شارع عشرين..

بالمناسبة.. سمعت فيروز تتغنى بشعرك قبل فترة.. تحديدا أبيات: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني.. أعلم أنك لا تعرف من هي فيروز.. وسيطول شرح هذا الموضوع.. لكن ثق بأن هذه معلومة تستحق الاحتفال.. وأعتبرها كنوع من التعويض عن مسألة شارع النسيم..
أتمنى أن علاقتك مع عبلة تسير على نحو جيد.. لكن خذ بنصيحتي.. كن ثقيلا مع النساء.. من الطبيعي أن تتمنع عليك مادمت تقول فيها المعلقات بين اليوم والآخر.. عموما أمورك الخاصة لا تعنيني.. إن كنت تطمح بمساعدتي لك في المهر فلا تتفاءل كثيرا لأن آفة الأسهم فتكت بكثير من ماشيتي..
اخبرني بالمستجدات
بانتظار ردك
Your loyal dog
Aymn

شهر يوليو - Anamenosphilius .

( مختارات فكرية) – للكاتب / Anamenosphilius

1
كلّ عاطفةٍ إنسانيّة أو حاجةِ نستطيعُ -بطريقةِ أو بأخرى - ردّها إلى غريزةٍ تتشاركُ فيها الحيواناتُ مع الإنسانِ، فالحبّ الذي تراهُ في الشارعِ مرأى الصُحِفِ اليوميّة -متجاوزينَ منطقتنا الجغرافيّة- نابعٌ عن اشتهاءٍ جاءت بهِ غريزةُ التكاثر، و ظهور الأديان التي اختلفت من عبادةِ المطر لعبادةِ البقر و خلق الآلهة أو السجود لتواتمٍ تُردّ إلى الخوف على طريقةِ كُثرٍ من دارسي الأنثروبولوجيا و علم النفس التحليليّ، على أيّ حال، لم ترتبطُ عاطفةُ ما بالإنسان أو تلازمُ الأسئلة الأولى في وجودهِ أكثر من عاطفةِ استشعار الجمال، الشعورُ البسيطُ الناشئ عن الإحساس بالجمال، الطريقةُ الغامضة في التصالحِ مع ما هو جميلٌ و ما ليس كذلك، ولم يكن سؤالٌ أكثر من سؤال الجمال مرتبطاً بأسئلة الإنسانِ المصيريّة و مدى تميّزهِ عن بقيّة الكائناتِ.

ما الذي يجعلُ امرأةً ما جميلةً؟ نعلمُ تماماً أن تناظرُ نصفي الوجه، نسبة طولِ الوجه إلى عرضه، تفاصيلُ الأنفِ بالنسبة لما يسبق، نسبةُ محيطِ الخصر إلى محيط الأردافِ ..إلى آخرهِ؛ عواملٌ تقومُ فواصلَ رئيسيّةً في تحديدِ ملكاتِ جمال العالمِ - مثلاً، لكنّ الكثير منّا - وأحدهم يتحدّث الآن - لم يجدوا دائماً ثمار هذه التصفياتِ ثماراً جميلةً بحقّ بل كان الجمالُ مخبّئاً في أماكنَ أُخرى دائماً؛ أماكنَ بعيدة عن تحقّق أ، ب، و ج و الوصول إلى صياغةِ عامّة للجمال.
ولعلّ من الجدير بي التوقّف لتحديد الفرق بين الجمالِ الفوقِ طبيعيّ، الجمال الذي نلمحهُ في لوحةٍ أو نسمعهُ في أغنية أو ذلكَ الذي نصلهُ بالشطبِ و الصقل و مدى تباين الشعور في استقراء الاثنين وذلكَ صحيحٌ في حال اللوحة و الأغنية و النصّ و غيره تماماً كما هو للإنسان.
يرى كانط أنّ الجمالَ كيانٌ مستقلّ صناعتهُ عبقريّة يتفرّد بها القليلون و الشعور بهِ (الذوق) صفة عالميّة فطريّة في كلّ إنسانٍ يحتاجُ للوصولِ إليها صقلَ قراءته و عينه و أذنه.. الخ، بينما نقرأ هيجل على النقيض يحدّد للذواتِ قيماً مُنفصلة و يقفُ مع شكسبير حينَ يقولُ:-
"الجمالُ يُشترى بحُكمِ العينِ
ولا يُثرثر بأوّل عروضِ لسانِ التاجر"

أو هيوم حينَ قال:
"الجمالُ في الأشياءِ موجودٌ فحسب في عقلٍ يتأمّلها"

وكلا الاحتمالين قائمان، فمن الممكن أن العالميّة الظاهرة نتاجٌ للتراثِ الإنسانيّ المُتقارب جداً و المتّصل و الذي يتيحُ للجمالَ فرصةً ليختلطَ و يشكّل جوهراً واحداً عند جميع الأذواق، ولعلّ هذا أقربُ للصحّة عند الاستعانة بالتاريخ، ولعلّ امرئَ القيسِ مثلاً يرى رأي حفيدٍ لهُ -يحدّثكم- حين يقولُ:-

هصرت بفودي رأسها فتمايلتْ × علي هضيمَ الكشخِ ريّا المُخلخل
مهفهفةٌ بيضاءُ غير مفاضةٍ × ترائبُها مصقولة كالسجنجلِ
وكشحٍ لطيفٍ كالجديلِ مخصّرٍ × وساقٍ كأنبوب السقيّ المذلّل

فحبيبةُ امرئ القيسِ (هل كانتْ عنيزةً أم إحدى فرائدهِ الأخرى؟) لها خصرٌ دقيقٌ، فخذانِ ممتلأنِ بتروٍّ، عقبانِ صافيان، نهدانِ مصقولانِ مثل مرآةٍ، و الكثيرَ مما وصف، ولعلّ لهذا تبريرٌ بسيط ينبعُ من كون الحضارة العربيّة قريبة من غيرها مما أنشأ تقارباً في الاستطياب، بينما نجدُ في الحضاراتِ الأفريقيّة - إلى يومنا هذا - مفاهيمَ مختلفة تماماً عن الجمال قد تكونُ مرعبةً لبعضنا، ولعلّ فترةً معيّنة من حضارةِ المنطقة شهدتْ تفضيلاً للبدينات و نوّاماتِ الضُحى مثلاً؛ لكنّها فتراتٌ عبرت.

سؤالُ الحاجةِ إلى الجمالِ و أهميّتهِ تضخّمَ ليصبحَ سؤال الـ a priori والـa posteriori و ما إذا كان الجوهرُ الإنسانيّ نتاجاً لفطرةٍ تسبقُ الميلاد أم نتاجاً مُكتسباً للعيش، وما إذا كان الاستمتاعُ بالجمال فطرياً أم مكتسباً، و الأمرُ نسبيّ و واسع، فكثيرٌ من قرّاء المدارس الأدبيّة التجريديّة كانوا في مراحلَ عبّاداً للمدارس الرومانسيّة و السرياليّة، و كذلك رسّاموا التكعيبيّة و السريّالية الذين رسموا كلاسيكياً مُسبقاً ليصبحوا ألدّ أعداء وضوحهم.

بالنهايةِ أعتقدُ أن الجمالَ جمالٌ و كفى، و الفنّ لأجل الفنّ حركةُ سامية تتركُ العالمَ خلفها لتلامسَ قعر السمو الإنساني و شعورهُ الجماليّ، والحياةُ الجماليّة هي بالتأكيدِ حياةٌ سعيدة، فالجمالُ مفهومٌ لا يقيّد باللوحاتِ و الموسيقى و النصوص، و يمتدّ لروتينِ الحياة، طريقةِ العيش، الحبّ، ضياعُ الأيّام، فلسفة الحياة، العلم و كلّ شأن الإنسان، الجمالُ محرّكٌ طبيعيّ و مبرّر غامض عنيف التأثير على كلّ تصرفاتِ الإنسانِ ومسالكه، ولو توحّد مفهومُ الجمالِ لتناحرنا على حياةٍ واحدة.


2

"الأمرُ المروّع هو أنّ الجمال ليس رهيباً فحسب، و إنّما هوَ غامضٌ أيضاً، فالله و إبليس يتحاربان هناك، و ساحةُ معركتهما قلبُ الإنسان. لكنّ قلب الإنسان لا يطلبُ إلا الإفصاحَ عن وجعه، أصغِ الآن.. سأُسمعُكَ ما يقول.."
- فيودور دستويفسكي


تشخيصُ الألم للحديثِ عنهُ عملٌ شاقّ، الألم الوجوديّ أشدّ صرامةَ من الفقرِ المُدقع، اليُتم، المرض، العذاب، الحرب، و فقد كلّ ما هو ثمين.. ذلكَ أنّ الألم الوجوديّ يعلّق ضحيّته على حافّة التخلي عن قيمةِ كلّ شيء، فالحياةُ بما فيها تفقدُ الأهميّة، الخطواتُ لأجل المستقبل بلا أهميّة، كلّ ما هو ثمينٌ لا أهمية لهُ ولا قيمة، فكلّ سلّمٍ نصعدهُ ينتهي بدرجةٍ أخرى، وكلّ قمّةٍ نبلغها إمّا تُشرّدنا بحثاً عن أخرى أو تُسقطنا في الهاوية مارين بسرعة صاروخيّة بجانب ارتفاعاتٍ أضعنا العمرَ في تسلّقها، وكلّ ألمٍ سوى ألمِ الوجودِ شعورٌ مُفرطٌ في السخافةِ واللامعنى.

إن ألم أسئلة الغايات، أسئلة عبثيّة الحياة، أسئلة جوهر الإنسان و ما هو لأجله شفراتٌ صغيرة يخبّئها لامسُها في حنجرته لتحزّهُ مع كلّ لُقمة، تحت أجفانهِ لتحزّهُ مع كل رمشة، على طبلة أذنه لتتجرحَ كلّما اهتزّت لصوتٍ ما، فكلّ الطرقِ مُغلقة، كلّ الأساليبِ جامدة، ولا طريقَ لبلوغِ نتائج، بعد فترةٍ تجدَ نفسك واقفاً أمام المرآة تتأملُ بؤس الإنسان، فيزيائيّته، وجودهُ المُفروضُ، و الشكّ بكلّ شيء حتى في تلكَ الصورة ذاتِها.

لا شيءَ يُنقذكَ من اضمحلال وجودكَ فرداً من المجتمع، الجرفُ الوجوديّ صامت و يمسكك بكلّ ثباتٍ و تشلّ تماماً عن الحركة، لا شيءَ ثقيلٌ على قلبِ الإنسانِ سوى هذا الجرفِ الأسود، الجرفِ الفارغِ تماماً و الغامضِ جدّاً، السوادُ السرمديّ، ما يورثكَ الكثير الكثير من اللامبالاة، عدم الاكتراثِ بما يجري من حولكَ، قلّة الاهتمام بشأنِ كلّ يومٍ، بمُتَعِكَ الصغيرةِ، بعبثكَ، بمشاركتكَ المجتمعَ أيّ حدثٍ عابرٍ، بشعوركِ بالراحةِ خارجَ عُزلتكَ و أشياءَ أخرى.

لا شيءَ ينتشلكَ من زنزانةِ العزلةِ عندما يقيّدكَ الوجعُ الوجوديّ، لا شيءَ يعيدكَ إنساناً كُنتهُ، فعدد الساعات الذي يمرّ لا يهمّ، عمركَ لا يهمّ، ما مضى أو سيأتي لا يهمّ، كونك جديداً عن الحياةِ لا يجعل بينك و بين رجلٍ يقدّم قدماً لقبرهِ و يؤخّر الأخرى لينتزع آخر مُتعهِ من الحياة؛ كلاكما منتجاتٌ غير صالحةٍ للاستهلاك الاجتماعي و كلاكما تعرفانِ عن الحياةِ ما لا يعرفهُ سواكما؛ كمّيةُ اللاشيءِ فيها.. كلاكما لا تسألان عن عن احتمالٍ أو "ربّما"، وكلاكما فقدتما القدرةَ على الإيمان، فلا شيءَ حقيقيّ.. لا شيء مؤكد.. وكلاكما فقدتما الحساسيّة تجاهَ كلّ شيءٍ لتستقرّ كلها على شكلِ حساسيّةٍ مُفرطة تجاهَ الجمال؛ صنو التعبِ الوجوديّ الأزليّ و شريكهُ في الغموضِ القاتم.. فورَ أن تغرقَ كليّاً في ألمكَ الوجوديّ لا أيدي هُناكَ لا تنتشلك، لا شيءَ سوى حزنٍ بسيط ، حزنٍ يطفو بلا وضوحٍ و سعادةٌ إلهيّة بالجمال، بالكثير من الجمال..

شهر يونيو - محمد مجدي .

(أغنية للكلاب و الغُرْبة) - للشاعر / محمد مجدي(هرمس)
"قالوا علينا ديابة
و احنا ي ناس غلابة
يا مغنواتي غنّي
حكايتْنا ع الرّبابة"
-موال مصري-
.
.
"أغني للكلاب المشئومة ، أكانت تلكَ التي تهيم على وجوهها ، وحيدةً، في الممرات المتعرجة في المدن الكبرى ، أم تلك التي قالت للإنسان المخذول ، بعيونٍ مومئة ، و روحية : "خذني معَك ، و من بؤسينا ، قد نصنعُ نوعًا من السعادة "
-بودلير-
.
.
.
ما لَهُ العواء ؟
سأظلّ أعوي رغمًا من تحذير الطبيب!
واشمئزاز المنافقات .
سأُري المليحةَ كيفَ في دَمِها عواءٌ لم يُنجَز
وأمحو الخجل عن وجه الهلال
سأشير للمُظلِمِ مِنهُ وأعوي
العُواءُ يأكلُ حنجرتي
يتدحرجُ على الليل
في يومٍ ما سيأنَسُ لي صبيّ مَنذورٌ
ويغنّي معي
سيقبَلُ أن يآخي بينَ الكلاب والشجر
بينَ الذئابِ و المُحيط
بينَ الأحذيةِ و القطارات
بينَ الغُرباءِ
والغرباء
أنا مغنّي الكلاب و الأحذية
أرسمُ أغنيتي على جسد الكاعِبِ
و أستذيبُ المعاني المبعثرة
أغنّي للكلاب المهيضة الأعين المتذللة للغرباء الذين يمرّون في الحارة
أغنّي للأحذيةِ والانتظار و الموت
أغنّي لملاعين الوقوف بالمحطّات و تجاهل الباصات
.
أغنّي للرؤية و المشّاء الوحيد
في ليل الشتاء
يعدّ الشهب
ويراجِعُ تاريخَ الندرة !
ويعوي كذئبٍ مَريضٍ بالليل
لا يستطيعُ إلى النّوم
في شموسٍ.

شهر يونيو - هرة .

( وَ ثَمَّةَ هُوَ .. ) - للكاتبة / هرة

لانطفاء الليل في غياهب المنافي السحيقة معنى؛
يهون اختلاج الموت في رحم الهواجس
و لسكون المنافي وقع
كاندلاع القاضية في أجساد الضعاف
و لقسوة الريح فيها أيضاً أوجه
كأوجه الطغاة الفاحشينَ
تلاحق المسكون فينا من شظايا عزم لتنثرنا و تمحينا
ضمن أوراق الخريف ،
شمسها لا تعرف وجوه الخلائق فالكل جاثٍ يرتجي
"قليلاً من الدفء يا عالية.."
و ثمة هو
.يمنع انسياب التيه في امتداد الوريد
يذكرني بجمع تراتيل جدتي قبل أن تنكرني المشيئة.
و أدرك به أن العمر أقصر من تنفس أمنية على راحة وهم
و أن الماضي يعود برداء اليوم
و أن عودتنا لجبالنا الطاعنة في الكبرياء
تستلزم عباءة من حزن مضاعف و قليلٍ من ابتسام
ليس احتراماً لمن ماتوا قبلنا
لكن لتألفنا من جديد
..

شهر يونيو - إيثار زاهر .

(تنقصني فاطمة ) - للكاتب / إيثار زاهر

وينقصني قلبٌ لأكملَ رحلةَ المعنى إليكِ
ينقصني أن أعيدَ الكلامَ إلى أولّه

أن أُعيدَ القصيدَ إلى لحظةٍ أوليّةْ
وأعبر نهرَ الكلامِ إلى لغةٍ بدويةْ
لأعرف كيف أقول الكلام الذي لم أقلهْ
الكلام الذي لم يقلني ..

ينقصني أن أكون الهواء الذي تتنفسين
النعاس الذي تنعسين
الليالِ التي تغسلين بها نرجسكْ
الليالِ التي تعبرين بها أَولّكْ

وينقصني قلبٌ لأكمِلَ رحلةَ المعنى إليكِ
ينقصني معنى ليستجيب الصدى ..
تنقصني قِبلةٌ دائمةْ

تنقصني فاطمةْ
..

وينقصني أن أكونْ
ينقصني حدُّ الكفايةِ في الجنونِ
إلى الجنونْ
إلى البداياتِ التي لا تشبهنا
إلى النهايات التي لم نرتكبها بعدْ
ينقصني ربيعٌ قريبٌ لا يمكنُ وصفه
.. شتاءٌ أدركهُ وأَفقِدَه
ينقصني خريف مرّ على مهلٍ دون أن
يدركَ تفاصيلهُ
ينقصني صوتكِ يرتّبُ أيامّي
كلَّ على حدة
وينقصني أن أكونْ
إلى الجنونْ
إلى الكفايةِ في السكونْ
تنقصني عشبة ناعمةْ

تنقصني فاطمةْ
..

وينقصني وردةٌ في البعيدِ
ينقصني أن أعيدَ اسمكِ المستحيل إليّ
أن أضمّ اسمك اليومَ عليَّ لأعرف كيف يكون الغياب أسى
كيف يكون الرحيل مسافاتَ ضيّقةٍ بيننا.

يُعدُّني الفقدُ للفقدِ
يوجعني مطرٌ في أولّ الليل بالذكرى

وينقصني ما بيننا – بيننا
ما لا يعرفه سوى أنتِ
وأنا
ينقصني أن تكوني هنا
- بيننا
تنقصني وجهةٌ غائمةْ

تنقصني فاطمةْ ..

شهر يونيو - فجر الكوني .

( عزلة ) - للكاتبة / فجر الكوني
ماذا لو أني الهاوية
و أحسب أني رعب الحافة
ماذا لو أني رائحة الغيب
واحسبني السم في الساعات
أو أني خطر الغابة
واحسب أني الظل الباهت لغصن لوز مائل
ماذا لو أني سحر اللغة
واحسب أني فاصلة بين الكلام ..
ماذا لو أني لعنة الجحيم ..
واحسب أني الذنب الخجلان ..
ماذا لو أني تسابيح السماوات ..
واحسب أني بكاء ألسوسنه السوداء
ماذا لو أني الموت الحزين
واحسب أني تلويحه يد الروح للجسد
ماذا لو أني لوعة الحب
واحسبني ريق لقبلة عاشقين
ماذا لو صرت ذاكرة الهلاك ..
وتذكرت أني سمكة بكماء .. صغيرة و حمراء
تهرب من شباك الصيادين
كنت أحسب أني غموض البحر ..
ماذا لو أني خيط الغرز الأزرق في الصدر الجريح
و حسبت أني القلب المريض
ماذا لو أني, ورقة ممزقة مكتوب فيها لحن نشاز..
و حسبت أني الأغاني , أني فتنة الصوت ..
ماذا لو أني حجر صغير يلمع في مياه النهر
و حسبت أني الحمم , أني غضب جبل بركاني
ماذا لو أني نبتة ضائعة وحزينة في مجرى السيل
و حسبت أني غدر الرمال والاتجاهات ..
ماذا لو أني لذة الوسن
حسبت أني خمرة الليل , و سواده ..
ماذا لو أني بيضة دود القز الفاسد
و حسبت أني نعومة الحرير
ماذا لو أني شق صغير في جدار
أو أني فكرة طائشة في ذهن الظلام
ماذا لو أني دم القتيلة في رواية
واحسب أني الكاتبة ..
ماذا لو أني ألصدفة ، وأحسب أني القدر ..
ماذا لو أني خلخال المرأة الضائعة
واحسبني لذة الضياع
ماذا لو أني رشة العطر الفاتنة التي يشربها النهد العاري ,
وأحسب أني امرأة وحيدة تتعطر الآن،
لتكتب عن روحها كل هذا الفزع !!

شهر يونيو - هديل الحضيف .

(مختارات من مدونة باب الجنة ) - للكاتبة الراحلة / هديل الحضيف
توطئة :
في هذا العدد لهذا الشهر من سلسلة مختارات ( الإبداع في الفضاء السايبروني ) اخترنا مشاركة رقم واحد للمدونة السعودية الكاتبة (هديل الحضيف) التي رحلت عنا الشهر الماضي بتاريخ 16-5-2008 بعد غيبوبة مفاجأة ، أربكت ذويها وأصدقاءها في التدوين ومتابعيها عبر المنتديات ، ليخطفها الموت عن عمر 25 سنة . حيث كانت ناشطة ثقافية متميزة وذات حضور إبداعي واعٍ وجميل . رحلت لتترك وراءها مدونة مفتوحة لكل العالم بعنوان (باب الجنة) . رحمها الله وتقبلها في جنته "حمامة إبداع خالدة" .
.
.

المختارات

.
.

- أ -
ربما عني..
حكت الحمامة.. فكنتُ أنا!!

أستطيع أن أسرد تاريخاً طويلاً، كنتُ فيه أنا البطل - البطل ليس سعيداً دائماً بالمناسبة!- كما يمكنني أن أفتش في الأعوام العديدة التي كنتها.. ولا أجدني .. لا أجد صوتاً .. لا رائحة .. ولا أثر .. وفي كلتا الحالتين.. لكم أن لا تصدقوني!
حسناً.. لأكن أكثر دقة، من أجلكم.. اسمي: هديل.. ولدتُ في ليلة من شهر أبريل 1983 .. كانت صرختي إيذاناً لرجل أن يكون أباً للمرة الأولى، ولأم أن تنجب من بعدي سبعة أخوة..
تنازعت طفولتي مدناً كثيرة، أكثر من أن أذكرها، وأكثر من أن تكون الصور الفوتوغرافية -الكثيرة هي الأخرى- أمينة بتوثيقها جميعاً، إلى أن عادت بي الدروب إلى الرياض، فلم أغادرها أبداً بعد 1992. هنا تنتهي حقبة.. لتبدأ أخرى كانت قاحلة تماماً من الذاكرة.. من الصور.. من كل ما يستحق أن يُذكر.. ربما يبرر ذلك أني لا أحب فترة مراهقتي، أو ربما كان الأخير مبرراً للأول!

الآن أتساءل:
هل حقاً هناك من يأبه بكل تلك الحياة التي تسردينها؟

ربما سيكون هناك من يأبه بأني بدأتُ عمري الافتراضي من عام 2001، وتسكعت في أماكن كثيرة، بعضها غار في النسيان، وأخرى ما عادت أوطاناً تستحق البقاء.. أول بريد ملكته كان في صناديق نسيج، وسيكون من الغريب أن أعترف بأن أول منتدى سجلتُ به كان منتدى الزعيم الهلالي! قبل أن تلم شتاتي جسد الثقافة لوقت طويل، ويكون لها الفضل في أن ألتقي بأصدقاء جميلين جداً، وروح وارفة جداً.. وعمر مليء بالانتصارات والخيبات أيضاً.. إلى أن غدا المكان غريباً.. وكان لا بد لي من هجرة.. لأمتهن رحيلاً مستمراً..

الآن وأنا أكتب من هذه النافذة الخاصة بي .. النافذة الأولى التي أملكها تماماً في هذا الفضاء.. أشعر بأن أوان السفر آن له أن ينتهي.. وآن لي أن أستريح بعد أن وصلتُ شيخوخة عمري الافتراضي!

هنا عتباتي للسماء!!
.
.
.
- ب-

هدهدوا نومهم
11 May 2006

لا توقظوا هذا الليل، دعوه ينام وسط الظلام، وحيكوا حوله وعليه قصصا مرعبة كي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه .
*
لا توقظوا هذا البكاء.. لم ينم منذ ستة أسابيع، و ما مات بعد، هو فقط أنهكه الدمع ويريد أن يستريح قليلا قبل أن يستأنف تيهه.
*
لا توقظوا هذا الموت، فقد تجرعت منه ما يكفي لأن أُبعث ثانية بأقل دهشة من الحياة..
*
لا توقظوا الذاكرة، دعوها تنام، ففيها ما يتسع لهاوية لا قرار لها !!

شهر مايو - ملاك .

( لا تَغِبْ ) - للكاتبة / ملاك
أمدُ يَدي، أتحسسُ صباحي:
متشنّجاً، كمقعدٍ يلفظُ تعبَ العابرين..
شاحباً، كالتعبِ لم يجد له مسقطاً.
آفلاً قبل أن يؤذنَ له !

وأحثو في أذني: الصمم،
تنخرني لهفتي إليكَ:
أُلقي بصوتي،
تَزِلُ خطاه..
أجرّه،
يتكوّم في فمي..
ألوكه،
يغزِلُ مِلحهُ،
يترسّب فيّ آسناً..
لا أُذنَ تنهلهُ، تتشرّبه، ترعاه .
تكتسحُني الوحشة والحرمان !

يا صوتاً،
يُلقّنُ أيامي ألوانها..
يبثُ لشفتيّ تلاواتها..
يحفرُ في الروح أقدارها:

لا تغب، تَبيضُ في المدى دمائي والحكايات.

شهر مايو - هرمز .

( أعقاب ضفائر ) - للكاتب / هرمز

1
هُنَّ..
حلمٌ يُكسى بالنهارِ ليطول اشتهاؤه..
كيف تستقر الفكرة والضوء له عينان خابيتان؟

2
مكتظٌ بالتعب وبي.
وبأصواتٍ لا أعرفها..
ليت حقائبي بلد
كأنتِ, ووجه أبي.

3
لن أتوسل نصراً يجهل معركتي الأخيرة...
كيف وهزائمي تأتي تباعاً؟

4
ليتني أختبئ فيك كومضة من الذنوب.
كأنتِ, حين أراكِ معبداً مقدساً,
وتريني طريداً مثقلاً بالخطايا.

5
دائماً...
وحيد كعقب سيجارة مهمل.
مله صاحبه ولم تتآلف معه المنفضة.

6
كلما مددت نظري في الظلمة ارتطمت أصابع قدميَّ بفم صديق يحيك لي مكيدة...
ليت ما بيننا كان نورا.

7
الحياة طلقة, إن أصابت فلا تكترث..
الموت إن أفزعك الدوي فحسب.

شهر مايو - إلى حين .

(شلل) - للكاتبة / إلى حين
" أجيء في الغياب..
في الوقت الضائع.
كما أنا دائماً "
نقطة وسطر جديد..
الشاشة أكثر بياضاً من المعتاد ولرابع مرة على التوالي أفتح ملف word جديد وأكتب الفقرة بصيغ مختلفة ثم أغلقه دون حفظ ودون أن ترتاح تلك الأصابع التي تحاول أن ترسم حلولاً للغياب كلما حضر وجه عائشة.
رنّ صوت أمي كمنبه، وهي تطل من الباب: الساعة الآن الثالثة، وإذا كانت لديك النية فعلاً في الذهاب إلى عائشة فاخرجي من الآن لأن الطريق طويل وستتأخر عودتك.
قبل أسابيع، وفي محاولة لتضميد جرح الوقت ، تذكرت أن عائشة كانت تعشق الديكور حين كنا معاً على مقاعد الثانوية، فقفزت إلى الإنترنت وفتشت عن كتب تخصّ الموضوع. تحريت تلك التي تحمل أغلفة جذابة، وفكرت أن أرسلها لها كهدية عبر "فيديكس"، لتخيط بها فراغاتها المتشعبة، لكن بعد أن جمعت في السلّة الإلكترونية بضع عناوين، اندلع لسان السخرية من ضوء شاشتي: هل يعقل هذا؟
ترسلين لصديقتك كتباً عبر "فيديكس"، وهي معك في بلد واحد؟
ما تفعلينه هراء. ثم من قال أن عائشة مازالت مهتمة بالديكور وتنسيق الأمكنة، مادمتِ أنت نفسكِ قد فوجئت بالتغيير الذي طرأ على خط يدك وبطريقتك الجديدة المضحكة في كتابة حرف الكاف بعد عامين من اعتيادك الكتابة على الجهاز مباشرة؟
كل شيء يتغير، حتى تفاصيلنا الصغيرة تتحوّر.
ماذا .. ألا تصدقين؟
أكتبي كلمة فيها حرف كاف لتتأكدي. أكتبي مسكينة يا مسكينة. هه.
أردت أن أبصق على نفسي. أن أؤطر وجهي الذي يبدو بارداً في أعين البعض، وأبصق عليه لأرتاح.
*
عند عتبة باب بيتهم، وقفت عائشة في انتظاري، وهاتفها في يدها.
قالت قبل أن أبلغها: حتى ما قبل نزولك من السيارة كنت أتوقع أن يرنّ الهاتف وتعتذرين عن المجيء.
خجلت من نفسي لكنني ابتسمت، وحضنتها حتى تبخّرت رائحة الغياب، وأفرغت كيس مبررات جديدة. كانت هناك لمسة ضباب في الجو جعلتني على يقين بأن عائشة تدرك كم أنا كاذبة وبارعة في تأليف الأعذار، وأن الذي يريد الوصول لا شيء يمنعه. لا شيء في الدنيا يمنعه، ورغم كل ذلك فهي تخفف كثافة اللوم وتسأل عن الأكاذيب بطريقة صادقة: وهل أنهيتِ المهمة بشكل يرضيك؟ وهل والدك الآن أفضل؟ وهل كان السفر شاقاً؟ وهل سيبقى عملك مكدساً بالمهام العالقة؟
عندما بلغنا صالة الجلوس سألتني: شاي.. قهوة.. أم عصير؟
قلت لها: تعالي اجلسي. لا أريد شيئاً الآن. أريد الجلوس معك فحسب. لقد اشتقت إليك.
قالت بإصرار: بل قولي. ريقي ناشف وسأشرب شيئاً معك.
طلبت العصير، وتأملت ظهرها وهي في طريقها إلى المطبخ. كانت هيكلاً يتحرّك بثقل جبل في مكان يعجّ باللوحات ذات الأطر المذهّبة والأثاث الشرقي الذي يستمدّ فخامته من مزيج ألوانه ونقوشه، والثريا الكبيرة التي تتدلى من السقف العالي. كل هذه الأشياء تذكر بذوق عائشة الكلاسيكي، ثم صور ابنتها في مراحلها العمرية المختلفة، متكئة على أكثر من مكان، غائبة وحاضرة.
لو كنت مكانها لخبأت عن عيني الصور. لأشفقت على نفسي ولجمعتها ووضعتها في صندوق حميم كصندوق الأخت المريضة في "نساء صغيرات"، ولتركت الأشهر تمرّ بمحاذاتها دون أن تفطن للغياب!
أستطيع أن أدرك الآن كيف انحسر المقربون والمعارف والأصدقاء وبقيت عائشة مع حزنها الجليل. لا صوت سوى صوت أقدامها في المكان وانعكاسات الأشياء على شاشة التلفزيون المغلق. حتى الخادمة الفلبينية ذهبت في إجازتها السنوية وتركت فراغها في المطبخ.
عندما عادت عائشة تحمل صينية فضية فيها كوب عصير وفنجان قهوة وكأس ماء انتبهتُ إلى فستانها الوردي المبقّع بزهور سماوية صغيرة وكدت أسمح لدهشتي بأن توسوس لي، لولا أن استبدلتها بسؤالٍ لا يعنيني: أين يوسف إذن؟
- سهران في منزل عمّه.
كدت أحتج وأقول: وأنتِ؟ ألا يكفي أنك تمضين نهارات عمله وحيدة؟ لماذا لا يقضي نهاية الأسبوع برفقتك؟
لكنني تذكرت أنني آخر من يرفع صوته احتجاجاً، أنا التي اكتفيت بأربع مكالمات هاتفية قصيرة ومتباعدة لمواساتها بحجة أنني لم أعد معها في نفس المدينة وأن الوقت لا يسمح لي حتى بشراء مستلزماتي الضرورية.
هل كان مشوار الساعة والنصف مستحيلاً إلى الحدّ الذي يجعلني قادرة على رؤية عائشة تتحوّل من أم مكتنزة لا تستطيع مقاومة الأكل الدسم والحلويات، شاركتها الاحتفال مرّة بعيد ميلاد ابنتها الخامس، إلى هيكل عظمي يمشي متثاقلاً ويستر جسده بفستان وردي مبقع.. وجوارب!
جوارب في هذا الوقت الدافىء من العام! أي برد يسكن داخلها؟
لم يكن هناك شيء آخر بوسعه أن يتغذّى على هيأتها بهذه الصورة. لا الحادثة الذي تعرضت لها بعد ميلاد ابنتها بعام وقرار الأطباء استئصال الرحم على إثره، ولا تحولات يوسف المزاجية بفعل العمل والحادث، ولا تلميحات والدته برغبتها في أن يتزوج من فتاة أخرى بوسعها أن تحقق حلمه في بناء أسرة كبيرة، ولا حتى مشاحناتها مع المدير في عملها الذي استقالت منه عند انتظام "أمل" في الصف الأول.
لاشيء من هذا كلّه كان قادراً على أن يسرق الحياة ولحمتها وسداها من عالم عائشة. وحده رحيل أمل بعد تللك الحمى المفاجئة، دخل بيتها الآمن، كسر زجاج قلبها، وسرق الألوان كلها من حياتها عدا الأسود!
*
دخلت أمّي ووقفت بمحاذاتي تهزّ رأسها: ها أنتِ جالسة أمام الكمبيوتر لأكثر من ساعة، لا تفعلين أي شيء ثم تتحججين بضيق الوقت. ألن تذهبي لعائشة؟ ألم تقولي بأنها ستنتظرك اليوم؟ لقد مرّت أشهر الآن على وفاة ابنتها. أي عزاء متأخر هذا؟
- الصداع يشطرني إلى نصفين. سأعتذر منها، وسأذهب لها في وقت أستطيع فيه مواساتها حقاً. ما جدوى الذهاب دون رأس؟
سمعت "جك" من فم أمي وهي تخرج صافقة باب الغرفة.
وحدها هي أحلام اليقظة التي بوسعها أن تفهمني، تعالج تقصيري، وتسكت تأنيب الضمير لبرهة. وحدها التي تحنو وتحتضن وتغامر بنقش التفاصيل.
ربما لا يكون فستانها وردياً. ربما مازالت ترتدي ألواناً حالكة، وربما يقضي يوسف يوم الخميس معها ولا يذهب إلى أصدقائه أو بيت عمّه. أريد أن أتذكر فقط من هي تلك الصديقة التي أخبرتني أن عائشة قد تحوّلت إلى هيكل عظمي وأنها ترتدي جوارب سميكة في قائلة الصيف وأن بيتها قد اتسع على حين غرّة وتحوّل إلى صحراء؟!
*
لا أجيء في الغياب.
نقطة.
أين القلم؟
مسكينة. أنتِ مسكينة. كــــ .. كــ .. كـ !

شهر مايو - CoonCan .

نصان مختاران - للكاتب / CoonCan
(1) الخريف*

على ارتفاع خادع
قطرة تحاول تقليد السماء
فتسقط من الثقل
*
الرعد ليس إلا
صوت سقوط سماء أخرى صغيرة
يتخيل طفل أنها موجودة بالخارج
*
في المطر
يمكن لنبات
أن يشرب العالم
*
أنا النهر
ورغم الركض الدائم
وتقصّي العدل التام
وصعوبة انزال العقاب بقطرات الماء
.
في لحظات محدودة وسرية
ومجيدة جداً
يحدث أن يرتوي إنسان واحد
وحينها أصبحُ سماء
---
* مُهداةٌ إلى التاسع من أكتوبر

2 (iii)

غير محتمل
أن تكون المسافة بين ذراعي ورأسي ضئيلة
وهي ذاتها المسافة بين يديّ وساقي
المسافة بين أذني وأنفي
وبين جذعي وقدميّ
كل شيء متقارب ومتزاحم
هذا يعني أني حين أموت
سأعرف سريعاً .
لن أجد وقتاً كي ألعب لعبة :
"عينان سعيدتان بحريتهما."

شهر مايو - إلا نبيذي .

( مرض ) - للكاتب / إلا نبيذي
مرض
لماذا لا أستطيع فتح رأسي لأرى ما بداخله ؟
ثمة كرة دم سوداء صغيرة تؤلمني
هكذا أتخيلها
لا أريد أن افعل لها شيئا
...
...
فقط أراها
لماذا لا استطيع فتح رأسي لأرى ما بداخله ؟
ثمة أغان وقصائد وأفكار وصور وأطفال وفيلة وخرائب وصفصافات وأشياء كثيرة هناك
لماذا أودعتها رأسي إن لم يكن بوسعي أن أخرجها منه متى ما أردت ؟
حسنا
....
....
فقط أرتبها
لماذا لا استطيع فتح رأسي لأرى ما بداخله ؟
ثمة سوفونيرات هناك جلبتها من اسبانيا والسيلان واندونيسيا
لم تعد تناسبني
لأهديها إلى ابنة أختي
أو
....
....
فقط أريها

لماذا لا أستطيع فتح رأسي لأرى ما بداخله ؟
ثمة شكوك هناك تبرعم شكوكا أخرى
لماذا لا أستطيع التحاور معها وجها لوجه ؟
إذن
......
فقط أعدها


لماذا لا أستطيع فتح رأسي لأرى ما بداخله ؟
أليس رأسي ؟
أليس من حقي أن أفعل به ما أشاء ؟
أن أغسله , أن أعبث به أو حتى أن أحطمه ؟
..
..
اوكي اوكي
ماذا عن قلبي !!؟

شهر مايو - رباب حسن .

( يُرهقكِ الموت؟ ) - للشاعرة / رباب حسن
... القبور في الرياض بلا أسماء ...
جنَّ الليل ،
وأنا أترنح بالخبر ،
ألوكُ الفاجعة ..
بُردةُ الدمعِ مهترئة لا تجمعُ ارتعاشاتي
فاجعتي كشمسِ اليوم ، عاجزةٌ عن الاحتراق
ماتت لحظةُ التساؤلات الجميلة عنكِ .
ماذا تفعلين ؟
يركضُ نحوكِ التيهُ والضياع
قبركِ بلا إِسمٍ ، بلا معالم
لا أحد يذكر في أيّ جهةٍ صرتِ ،
لا أحد يريد أن يتذكر في أيّ جهةٍ صرتِ ،
غصنُ الريحان في يدي ذابلٌ وأصفر . .
كيف يبدو شكلها الرياض ؟
كل الطرق إليها موت . . .
كلُّ قاصديها يا عزيزتي تركوا أفئدتهم لدينا
وعادوا بجوفٍ عميقٍ وأسود ،
وأحياناً بلا شفاهَهم يعودون ،
وإنـَّا - كغيرنا - أحياناً
نشتهي التقبيل ،
نشتهي أن نضع آذاننا على صدورهم ،
يطربنا القلب إذ يرفعُ صدى أنينهم .
من يُعيرنا شفاهاً ؟
من يملأُ صدرهم الخاوي بالقلب .
لنمارس شهواتنا بلا بكاءٍ ..
بلا تحسُّر ..
أهكذا !
بلا إسمٍ تموتين ،
ماذا لو اشتهى الريحانُ أو السدرُ
أن ينمو قريباً من رأسك ؟
فمنذا_يكون_ الدليل ؟
ومن ذا سيسقيه ؟
أدمعكِ الذي انتهى تاريخه ؟!
أم عصارات التوّحشِ وقد تمازجت بالتراب ؟!
بعدَ أربعين يوماً من الغياب ؟
من ذا وهبكِ ماءً يُعينكِ على الذوبان بلا ألم ..
من ذا أتاكِ يجدّدُ خلايا النمو فيكِ ؟
الليلُ الآن مــديـد ..
أسرجي لي إشارات الجهات ،
البوصلة ليست بيدي ،
غصنُ الريحان لازال يتبخر بين أصابعي ،
لكنّهُ قابلٌ للنموّ ..
سورةُ ياسين جميلة ولا يُرهقها صوتي .
أربّتُ عندَ كلِّ القبور ، أهمسُ باسمكِ
وليتَ صوتكِ يساعدني .

شهر أبريل - محمد الجنيدل .

عناكب وغراب - للكاتب/ محمد الجنيدل
عناكب
عناكب تتناسل في زاوية السقف
لا تزيغها البصقات
ولا أعقاب الأحذية
كلما انتهكت زاوية انحدرت إلى أخرى
الرأس متروكاً ،
على الطاولة يسعل الخلوة
تثقبه أنفاس
انسدلت خيوطها
أسفل العتبة
تفاحة
لو اندلق حامضها
لانهمرت الأكرة
وانكسر السقف .
.
.
.
غراب
أصابع معروقة
تنكث
الناتئ من الطين
فيما الباب
يرقب الصرير
شروخه تزفر
ملوحة
عابقة
بالسخط
تدحرج الحجر
الساهر في جمر
أنفاسه تترمد
وصلصاله يعطن
سينتفض - أخيراً - مثل غراب .

شهر أبريل - Socrates .

(عنف منزلي) - الكاتبة / Socrates
اعتدت رؤية الكدمات الزرقاء هنا وهناك، خصوصا في النصف الأسفل من جسدي. أحيانا أتذكر كيف أصبت بها وأحيانا أفاجأ برؤيتها، إذ أنني كثيرا ما أصطدم بالأثاث والأبواب، حتى تلك الثابتة في مكانها قبل سنوات. في السنوات الأخيرة زادت مسألة الاصطدام والتخبط اليومي تقريبا، والغيظ وركل الأثاث ولكمه. وصل الأمر لجروح، أكتشفها أحيانا وأحس بها أحيانا، الشهر الماضي اكتشف "ياء" جرحا طويلا ليس بالبسيط أسفل ظهري جراء واحد من تلك الحوادث. مازال يفزع حين يرى إحداها. كنت منذ فترة طويلة أيضا أسقط المشروبات على ملابسي إذ إما أصدم الزجاجة أو الكوب بأسناني أو أميلها قبل وصولها إلى شفتي ببضعة مليمترات، كنا نتضاحك وأقول إنني لم أتعلم بعد التصويب على فمي. في الفترة الأخيرة حدث تغير نوعي جديد، إذ تعددت مرات اصطدامي بأشياء في الوجه، خاصة صدمي لنفسي بما أمسكه في يدي. وهو على ما أظن نقص مزدوج في الإدراك. أشعر بأنني خرقاء تماما. قبل شهرين كنت أرفع سماعة الهاتف فصدمتها بقوة مازالت تؤلمني حتى الآن كلما تذكرتها في عظمة الخد أسفل عيني مباشرة. ساعة كاملة من المكمدات والألم الشديد والزرقة ليومين (كيف يحتمل الناس كل هذا الضرب في الوجه يا ربي؟). كيف اتجهت سماعة الهاتف إلى خدي؟ ليس لدي أية فكرة. لماذا كنت أرفعها بكل تلك القوة؟ لا أدري. بعض الإصابات الخفيفة على أيام متفرقة، ثم أول أمس، وبينما أفتح باب البراد، مررته بكامل قوته على جانب أنفي محدثة جرحا واضحا. أفكر إنني فقدت جزءا من تركيزي أو ربما من إدراكي للحيز المكاني الذي أشغله ونسبته للأثاث وهي مهارة نكونها في حوالي سن العام ونصف. أسوأ ما في جرح الأنف إنك تراه طوال الوقت – ومعه تذكرت شيئا آخر تطور بخصوص اختلاف وجهات النظر بيني وبين الأثاث والأبواب: لقد كففت عن ركلها وضربها ولعنها أصبحت لا أفكر فيها بعد أن أصطدم بها، وأحاول علاج الصدمة . لقد كففت أخيرا عن لومها على حوادثي الصغيرة الخرقاء.

شهر أبريل - hilal .

مفكرتي العزيزة - للكاتب / hilal
تحدثتُ مع فأر الحمام البارحة. كان جوعاناً قبل أن يبدأ بالكلام عن عائلته. أطعمتـُه ما بقي من شطيرة الجبنة التي كنتُ ألتهمها. وقف على قدمين وهو يأكل شريحة الجبنة الصفراء. بدا لي كصبي صغير لم ينهِ دراستُه بعد. ابتسمت.قلتُ له أني قضيتُ زمناً لا بأس به أقرأ آنا كارينينا. والفترة الأطول كانت تلك التي قضيتُها قارئةً للقسم الأخير. أعرف خاتمة آنا. تحت القطار ماتت. أعرف وأماطل الوصول إلى الصفحة الأخيرة. أوهم نفسي بأنني أشبهها؟ ربما.
لم يعقِّب الفأر.
قلت له: لديّ صور أكثرها رقمي موجودة في ثنايا كمبيوتري الأسود. أفكر جديّاً بطبعها. سأطبع صور هذه المدينة لما أعود. لكل مكان أدعسه حكاية مصورة. حلوى مطبوخة أو مصنَّعة وإشارات سير وحيوانات وطبيعة خضراء أو ثلجية ومفرقعات. كل ذلك سيعود ليُخلَق أمامي كلما نظرْتُ.
أكره مدينتي الحالية. أمقت الروتين النهاري الذي بدأتُ اعتياده. لولا الحمّام. لولا فأر الحمّام، لساءت الأمور أكثر. لكني أعرف أني سأعود لأحب هذا المكان ما إن أتركه. الأمكنة تُحَبُّ أكثر لمّا نبتعد عنها، ربما لأننا نجمّلها أكثر فترةَ الغياب.والفراشات؟ الفراشات الجميلة تدفع نفسها نحو الموت احتراقاً. هذا معروف، قال لي الفأر. معروف، لكن هل تفهم لم تفعل الفراشات ذلك، سألتُه. لم يجب الفأر. دخلتُ معه في شرح علمي. لم يبدُ لي مهتماً. دخل مسرعاً إلى جحره أسفل الجدار لما خرج ذلك الصيني من الحمام وسألني إن كنتُ أريد منه شيئاً. أومأتُ له بالنفي، وأنا ألحظ اعوجاج صف أسنانه الأمامية. فكّرتُ عندها بالتقاط صورة لفراشة بجناحين ملوَّنين مبهرَيْن.
حدثني فأر الحمام البارحة. غداً، أتحدَّث مع عنكبوت السقف الصغير وأسميه "سبايدي". سيخبرني بدوره قصة أخرى، وسألفت نظره إلى حبي لشرائح الباذنجان المقلية.
سأقول له أن أحدهم الآن في المقلب الآخر من الكرة الأرضية يكتب عن فتاة امتهنَت في صغرها خربشةَ الرسومات على أنحاء جسدها، بقلم البيك الأزرق.
وسيفهم، ويقول في ذهنه (نعم سبايدي يملك ذهناً). سيقول في ذهنه: حرامٌ هذه "الصغيرة".
يقصدني. مهضوم سبايدي. قلبه أبيض.
يظن أني لا أسمعه. سأدعه يظن ذلك، وأضحك وأربت له على جسده مآخاةً.
وسنكتشف سويةً خلال حديثنا أننا نكره الصراصير.
العالم صغير فعلاً، ويتسّع للاهتمامات والهوايات المشتركة.
لكن الكلام يوهم. كذلك الكتابة. لا النصوص المكتوبة أو الحوارات المنطوقة تعكس أصحابها تماماً.
عليَّ أن أتعلّم هذه الحقيقة لئلا أقع في الوهم.
طيب. أحتاج الآن أن أتقوقع تحت دوش مياه ساخنة وأن أصمت.
نتكلّم لاحقاً.

شهر أبريل - Olamic .

لا شيء - للكاتبة / Olamic
1
أن أكون مقطوعة الرأس، هذا يعني ألا أكون قادرة على التكلّم، أو السماع، أو النظر، أو الشمّ، أو التفكير، أو الإحساس بسائر جسدي. هذا يعني ألا يمرّ الأكسجين عبر أنفي. هذا يعني ألا أتنفس. هذا يعني ألا أكون، وأن أموت، وأن أستلقي هكذا، مجرّد روح في جسدٍ بلا رأس. أن أكون بلا رأس، هو أن أكون بلا هموم، هو أن أكون... بلا هوّية. أن أكون براحة. أن أبتعد عن البشر ونقاشاتهم المقززة، وحبّهم الكريه، وكرههم الغير منطقي، وروائحهم الطبيعية أحياناً، والكريهة في أحيانٍ أخرى. أن أكون منعزلة عن كل شيءٍ يُذكرّني بهم. أن أكون مُجرّد لفحة من هواءٍ بارد لجميع الناس. أن أكون روح ضاعت وهي تبحث عن نفسها أو عن جسدٍ يُعجبها لتستقر فيه، جسد برأس.
اخترتُ أن أكون روحاً،
كما أنا.
وألا يكون لي رأس، ولا حتى جسد.
2
أن تؤمن بما لا تراه،
هذا إما غباءٌ خطر، أو قوّة عظيمة.
3
المرء لا يريد أن يمرض، لكي لا يمرّ بمرحلة الشفاء.
فترة النقاهة – أحياناً – تبدو كئيبة جداً؛ عقيمة قليلاً... وغير مُثمرة أحياناً. لن ينفعك التعافي من أمراضك الداخلية أبداً؛ إلا إذا كنتُ تريد تخدير نفسك عن الحقيقة المُروّعة – التي فضّل بعض الناس بتسميتها "واقعاً" – ولكن، ما الفائدة من كلّ هذا؟ أن يُعمى بصر شخصٍ ما بعد أن كان يُبصر أمر مؤلم جداً، ليس كمن وُلد أعمى. وكلّ من جرّب الألم لا يوّد أن يمرّ بهِ مرّة أخرى! ولكن لسوء الحظ، الشفاء لا بد منه في يومٍ ما، ويبدو بأن اندفاع الألم بعيداً عن الروح يعوّدها على الالتئام والشفاء بنفسها ويجعلها تستعدّ للآلام القادمة. تماماً كالجروح.
4
«لا أحد يمكنهُ أن يجعلك تشعر بالنقص دون موافقتكَ أوّلاً.»
Eleanor Roosevelt
إلى من يهمّه الأمر،
أنا، اسمك هنا، أمنحك موافقتي القانونيّة بأن تحقق هدفك المذكور أعلاه. وأمنح موافقتي الكاملة بأن تجعلني أشعر بالنقص. وأعتقد بأن ذلك سيكون في صالح كلا الطرفين لإنهاء النزاعات القائمة والنفاق.
تحياتي،
اسمك هنا.
التوقيع : توقيعك هنا.
5
رأيتُ بأن البشر جماعة أسئلتها لا تنتهي. سواءً كانت أسئلة مُهمّة أم غير مُهمّة؛ غبية أم ذكية. ولكن، هل يوجد جواب لأي من أسئلتهم التي يطرحونها؟ في أحيانٍ، تكون الأجوبة كثيرة، أو في أحيانٍ أخرى، لا يوجد أيّ جواب.
في عام 110ق.م.، سأل أحدهم، "هل الأرض كروية؟"، وأجاب الناس "لا!".
في عام 1م، سأل أحدهم "هل الشمسُ هي مركز الكون؟"، وأجابوا: "لا!"
في عام 300م، سأل أحدهم "هل هناك أي دولُ أخرى في العالم غير إنجلترا؟" وأجابوا: "لا!"
في عام 1600م، سأل أحدهم "هل سيُعترف بالمرأة قريباً في المستقبل؟" وأجابوا: "لا!".
في عام 1900م، سأل أحدهم "هل سفينة التايتنك قابلة للغرق؟"، وأجابوا: "لا!".
في عام 1919م، سأل أحدهم: "هل سيكون هناك المزيد من الحروب؟" وأجابوا: "لا!".
في عام 2007م، يسأل أحدهم: "هل العالم يخضع للاحترار العالمي؟" وقالوا: "نعم!".
مرّت آلاف السنين، وأخيراً قد تطوّر الجنس البشري ليجيب بعفوية. ولم يحدث هذا قبل حلول هذه الألفية – بأن البشر أخيراً قد استخدموا عقولهم. لربّما يأسوا من كونهم لا يحملون جواباً صحيحاً لأي شيء على الإطلاق. لا بأس بألا تحملوا تفسيراً لكلّ شيء، أو جواباً لكل شيء، فإن هذا ما يجعلكم بشر.