شهر أكتوبر - يونان .

(حفريات في الذاكرة ) - للكاتب / يونان
حين يمضي الليل بالجالسين ، ويلتفت أحدهم باحثاً عن شماغه إيذانا بالرحيل ، فإن من دواعي الاسترخاء أن يعرف المرء سبب عشقه لنادٍ ما ! خاصة إن ضُج الرأس بأمور وأسباب وجيهة ؛ كون من طبيعتها أنها لاحقة وتبريرية ، أو كما في العادة : دفاعية ؛ تـُجاحِش عن قرار اُتخِذ دونها مجتمعة ، وقبلها بكثير ؛ في سني الطفولة الأولى ...


(1)
كانت المبخرة ترسل خيطا باهتاً من شذى العود الباقي بعد انقضاء الوليمة . وعبر باب المجلس المفتوح ، اختفت أحذية رجال وأطفال كثيرة ، مخلفة فراغا ناصعا امتد إلى حوض النخل ، وفتى حافي القدمين ، يغالب بلاطا لم يزل محتفظا بحرارته بالمشي على كعبيه ، ليستريح أخيرا في الداخل بجانب شابين لا يفارقهما أبداً ، شابين كانا نحيلين عصر ذلك اليوم في المجلس .

ودون أن نظلمهما ، ذينك الشابين اللذين كانا نحيلين ، كانا – كالآخرين - لا يجدان غضاضة في استخدام كافة ضمائر الملكية والجمع .
ودون أن نظلمهما ، أو نلتفت للغرّة التي علت جبين كل منهما ، كان طبيعيا أن يلتقط ذهن الصغير تلك الإشارة ، فيفهم وفقا لذلك ما خلاصته : أن فريقاً يتربص بنا الدوائر ، يُدعون " هم " وندعى " نحن " .

كانت عينا الصغير مسلطة على القابع في ركن المجلس : التلفاز الخشبي ذي القوائم ! وحين قام أحدهم بفتح درفتي التلفاز اليمنى واليسرى ، انداحت عن ست عشرة بوصات كفت لحضن الملعب وقتها ، وانطلق الصوت قبل الشاشة التي اخضرّت شيئا فشيئا . ومع ذلك الصوت ، حصل الصغير لأول مرّة على تفسير لهياج الناس الواصل إلى فناء المنزل . كان المنزل يقع قريبا من أستاد الملز !

- هذا هو سلطان بن نصيب ؟

يجب أن أقول أن لتردد اسم سلطان بن نصيب في حوارات النحيلين قد شطح بفضوله ، ولكن جواب السؤال كان عموما " لا !"

- هذا الحكم الله يصلحك !

على كل حال ، لم ييأس من ضحك الشابين فلابد من شيء يميز ذلك الرجل .

- هذا سلطان بن نصيب ؟
- لا هذا الحارس !

ودّا لو رفعاه من أذنيه

تبين أن ذهن الصغير لا تكفيه إشارة يلتقطها ، ومن الأولى تقديم شرح مستفيض لألوان الناديين قبل التصريح بانتماء سلطان بن نصيب .


(2)
كان اللونان الأزرق والأبيض لنادي الهلال يتناسقان في عيون الطفل الذي كانه ، ويتناغمان سوية في مزيج سائغ ومشرق ، كأن الأبيض لم يخلق إلا للأزرق . جاعلهم تلك اللحظات ملائكة أمام لاعبي النصر الممتعضين وملامحهم المكدودة .

ومع أن ما شاهدته في الملعب آنذاك لم يكن ليحصل مستقلا عن اللون ، إلا أن اللون كان كل شيء ، كل الأهداف والفنيات أو المهارات تتأسس على اللون – لا العكس – ووفق المحيط اللوني للنادي . كان اللون لاعب آخر في نظر المشجع الصغير ، يلعب كمحدد إضافي لفنية حركة التخطي ، ومتعة الكرة إجمالا .

استمر الشغف اللوني وفق إدراك حسّي فقط ، حتى مع بزوع بوادر انفصال أو تجريد للصورة المركبة أمامي ، ( تميز حركات الكعب عن باقي الحركات مثلا ) فإنها تنفصل وفق إزاحة لونية تنغمس فيها تلك المهارات ثم تذهب إلى مدى أبعد من كرة القدم . على سبيل المثال : كنت اتخيل صالح النعيمة بسيارة كابرس زرقاء ، ميداليتها زرقاء ، ثم لابد أن يكون كنب المجلس بألوان نادي الهلال !

لنبق في عام 1401 – 1402 حيث الإعجاب اللوني مرتبط بالذائقة تلك الفترة ، إذ يصعب تركيب لون جميل ذلك الوقت ينفع لنادي النصر أوالاتحاد . ربما ساعدت الألوان في فهم ميول التشجيع ذلك العمر – وفي تلك السنين يوم أن كانت تعزلنا جدران من لون واحد تقريبا . ولنأخذ مثالا على ذلك ، جزئية من تركيب لوني ولعنا به ونحن صغار ، حذاء الكرة الأسود الباتريك مع الشراب الأبيض ! إن هذا مما يحسب في دائرة الفهم الكروي !

إن الفهم الكروي من أساسيات النضج لدى الصغار ويزايدون على بعض في هذه المعرفة ، إلى درجة أن مهارة اللاعب الصغير وإن كانت تشكل برستيجا خاصا ومميزا أمام أقرانه ، إلا أن المحاججة مع الخصوم عامل هام يتم الاستعانة به للصمود في وجوههم ، عندما تكون المحاججة فرصة لاستعراض مسميات الحركات وظلم الحكام !

وما أذكره جيدا هو أن أرقى رتب المحاججة هي التصريح بحدود قدرات لاعب ما ، كأن يكون مثلا ممن يتقنون تضييع الفرص السهلة ! إن استعراض معلومة كهذه يوحي بألفة وامتداد زمني طويل مع كرة القدم ، بعبارة أخرى ، الطفل يحاول أن يكبّر من سنه - تلك الأمنية العجيبة .

كنت أقول أن اللون يتدخل مع بداية معرفة الصغير لفنيات الكرة . لكن الصغير يكبر على تلك المتعة البصرية الخاصة باللون ويعوض عن ذلك بمتعة أخرى هي النقاش والحجاج الكروي . والطريف أن اللون لا يقنط من خروجه أبدا ، فمن النقطة التي يخرج فيها من فنيات الكرة يتدخل لاحقا بتلوين نقاشه !

ليست هناك تعليقات: