شهر نوفمبر - الشاهين .

(منتصف الليل إلا ربع.. !) - للكاتب / الشاهين


..ورقة أولى

صديقي ليس كسيحا؛ هذا ما أنا متأكد منه، رغم أنه يخبئ أقدامه عني تحت المقود بشكل دائم...... تسعة أعوام مضت منذ أن التقينا للمرة الأولى عند الإشارة الحمراء. كنت لحظتها مستعدا لخوض أي من الأحاديث البلهاء.
يبدو الأمر مثيرا للاهتمام، أو الاشمئزاز، عندما يقفز شاذ جنسي إلى طاولتك المعدنية متحججا بإشعال سيجارة كارتيه لاختلاق حديث ما. ليس بالضرورة أن يتبع هذا الحديث المبدأي تحرش جنسي سريع، فغالبا ما يخبئ لك هذا التحرش إلى مناسبات أكثر صخبا. قد تمنح قداحة السجائر الخاصة بك دون أن تزيح عينيك عن تلمس نقد تبجيلي مطول لــ "بنات الرياض" أو مجرد خبر صغير عابر عن صدور "قنص" أو "فسوق"، أو قد تتوقف عن القراءة لتشعل سيجارة الشاذ بنفسك، فالأمر يحكمه المزاج المحض، المتحرر من لباقتك الاجتماعية، بتلك اللحظة.
صديقي ليس كسيحا، ولا شاذا، هذا ما أنا متأكد منه. ليس فقط كونه طلب مني اشعال سيجارته عند الإشارة الحمراء، وليس بالقرب من الطاولة المعدنية. وليس كونه لم يرتب للقائي مرة أخرى، بل تم الأمر بمحض صدفة تابعة لا أظنه رتب لها بشكل يفقدني الثقة بنباهتي المعتادة، ولكن لتأكدي- بعد التجربة اللاحقة أنه مدمن لــ النيكوتين، وأن قداحة سيارته لاتعمل. حدث ذلك عندما فرغت بطارية هاتفي النقال قبل جسر البحرين بخمسين كيلومترا وقسيمتي سرعة، ومخالفة انتهاء رخصة التجول بمدن بلا أحذية.
إلى جانب كونه غير شاذ، فأنا متأكد جدا أنه ليس كسيحا، ولم تضللني عكازة الألومنيوم الممدة على مقعد الــ "لومينا" الخلفي، عن هذا الإستنتاج. لا أنكر أنني لم ارى قدميه يوما؛ غير أن غيبياتنا تؤكد أن عدم الرؤية لا ينفي الوجود. ثم أنني لم أعتد رصد اقدام الآخرين، متجاهلا كل افتراضات صديقي (م) بأهمية الأقدام.
قال لي، ذات لقاء: (حجم قدم الرجل يساهم في تشكل شخصيته، وهيئة قدم المرأة سببا في اكتناز مؤخرتها من عدمه)
- الـــ 43، كمقياس ايطالي، أجدها على "فاترينات" محدودة تلتهم بعض أرصفة المدينة العرجاء.... وغير ارصفتي المحدودة لا تعنيني اقدام أخرى.... أنا لست اسكافيا، على كل حال، لأحدد نوع أصدقائي أو نزواتي العاطفية استجابة لصورة حذاء نسيها عابر على تربة تشبعت بالمطر.
على مدخل الـــ "سيف وي" ألمحه على مقعد صغير، دون ظهر أو اقدام، يرصد اقدام العابرين كعاشق ماهر.. أمنح له قدمي ليلمع جلدها البني المستعار، من حين لآخر، كــ إرضاء لفضوله. صديقي لم يفعل يوما رغم أنه ليس كسيحا، وهذا ما أنا متأكد منه رغم رؤيتي للعكاز المعدني ممتدا على مقعد الــ "لومينا" الخلفي أكثر من مرة!
على مدى تسعة أعوام وأنا ألقاه إما ممتطيا العجلات، بسرعة جنونية، أو مسترخيا على طاولة معدنية؛ يستطعم القهوة السوداء والأحاديث المرة، والضحكات الساخرة، وكونه يفعل ما ألاحظه على أبناء المدينة برمتها لا يجعلني أشكك، كــ صديقي (م)، أنه كسيحا!


.. ورقة ثانـــــية..

ليس بيني وبين السرير سوى مسافة لا تتجاوز خلع "المنشفة" الملفتة على خصري لا أكثر.
قالت أنها تشعر بالنعاس، وأنا أشعر بالكتابة، وعلي أن أتجاهل المسافة الفاصلة بين "منشفتي" والسرير، وعليها أن تترك لــ "ضغث" الحلم أن يستسلم لسطوة "الكيبورد" كتطبيع مع جندي محتل اشرأب أنفه كبرا..
مساء الغرفة باردٌ كعاطفة شيخ له تسعة أبناء، وجسدها الناعم لا يحتمل هذا البرد. تدثرها بالأغطية لا يمنع قدمها الناعمة من لعن حرس الشتاء بالتسلل قليلا إلى خارج القيود، وكفري بقياسات الأقدام والفترينات لا يمنع بصري من التربص باصابعها الدقيقة.
ستنام، وسأكتب.. ستبرد أصابع قدمها كقلب شيخ، وسأقيس حذائها بفضول إسكافي الــ "سيف واي"، رغم ثقتي أن صديقي ليس كسيحا، وأن صديقي الآخر (م) متسرع في اختلاق النظريات!


..ورقة ثالثــــــة..

علبة سجائري فارغة الآن، وحذائي بعيد عن فضول البحث بمقدار رغبة ليلية في الاسترخاء، والمراودة فعل استثنائي لا يجيده من يحيى انتظارا لموت يؤمن بلياقة خاتمته... الموت لا يأتي لائقا في معظم الأحوال !
تساورني رغبة مراودة أصابع قدمها النائمة عن وجعي، وأتضرع شبقا إلى سيجارة لا تضطرني إلى معاودة البحث عن قدمي المستعارة (جزمتي)....... صديقي ليس كسيحا على كل حال، رغم امتطاءه عجلات سريعة قد تقود إلى الموت بكل اللحظات، كمدينة استمرأت "الحفي" والموت التصاقا بأعمدة النور وأشجار الزينة على الطرقات. الوقت- ساعة وتسعة وثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل- اقل قدرة من استرخائي على مهاتفة صديقي الآن... لست مؤمنا أن يرد لي جميل قداحة الإشارة الحمراء بسيجارة متأخرة على كل حال، ولن تفيق أصابعها النائمة لهدهدة لهفتي بـــ هذا المساء !

.. ورقة رابعة ..

القدم هي المقياس المتري الأولي لحجم هذا العالم..
والـــ تحليق لا يحسب سوى بالأقدام !
3400 قدم طيران هي كل ما تحتاج للوصول إلى جدة، كمثال تقريبي.. و 60 قدم هبوط كافية لأن يصعد قلبك إلى ترقوتك، وروحك إلى الله!
لا أستطيع بهذه اللحظة، وأنا أفكر بقدمها أن أكفر بتنظيرات صديقي (م)، ولا أجزم، قناعةً، بكساح صديقي الآخر لمجرد انثيالنا كشبق أبوي ردئ على صدر مدينة حافية.
قال لي أن جبينه مستعد لتصوير خطوط بلاط الرصيف عند أي انزلاق عابر، ولم أصادق على هكذا افتراض طالما أن ساقيه مخبأة تحت مقود الـــ "لومينا"، أو تحت سيقان طاولة المقهى المعدنية كل ما التقينا!
صديقنا (م) ترك لنا نسخة مزورة من سحنته على زجاج مقهى "التحلية" ورحل؛ لمجرد تغزّل عابر بنكهة إصبع قدم حبيبته الصغير.


ليست هناك تعليقات: