شهر يوليو - Anamenosphilius .

( مختارات فكرية) – للكاتب / Anamenosphilius

1
كلّ عاطفةٍ إنسانيّة أو حاجةِ نستطيعُ -بطريقةِ أو بأخرى - ردّها إلى غريزةٍ تتشاركُ فيها الحيواناتُ مع الإنسانِ، فالحبّ الذي تراهُ في الشارعِ مرأى الصُحِفِ اليوميّة -متجاوزينَ منطقتنا الجغرافيّة- نابعٌ عن اشتهاءٍ جاءت بهِ غريزةُ التكاثر، و ظهور الأديان التي اختلفت من عبادةِ المطر لعبادةِ البقر و خلق الآلهة أو السجود لتواتمٍ تُردّ إلى الخوف على طريقةِ كُثرٍ من دارسي الأنثروبولوجيا و علم النفس التحليليّ، على أيّ حال، لم ترتبطُ عاطفةُ ما بالإنسان أو تلازمُ الأسئلة الأولى في وجودهِ أكثر من عاطفةِ استشعار الجمال، الشعورُ البسيطُ الناشئ عن الإحساس بالجمال، الطريقةُ الغامضة في التصالحِ مع ما هو جميلٌ و ما ليس كذلك، ولم يكن سؤالٌ أكثر من سؤال الجمال مرتبطاً بأسئلة الإنسانِ المصيريّة و مدى تميّزهِ عن بقيّة الكائناتِ.

ما الذي يجعلُ امرأةً ما جميلةً؟ نعلمُ تماماً أن تناظرُ نصفي الوجه، نسبة طولِ الوجه إلى عرضه، تفاصيلُ الأنفِ بالنسبة لما يسبق، نسبةُ محيطِ الخصر إلى محيط الأردافِ ..إلى آخرهِ؛ عواملٌ تقومُ فواصلَ رئيسيّةً في تحديدِ ملكاتِ جمال العالمِ - مثلاً، لكنّ الكثير منّا - وأحدهم يتحدّث الآن - لم يجدوا دائماً ثمار هذه التصفياتِ ثماراً جميلةً بحقّ بل كان الجمالُ مخبّئاً في أماكنَ أُخرى دائماً؛ أماكنَ بعيدة عن تحقّق أ، ب، و ج و الوصول إلى صياغةِ عامّة للجمال.
ولعلّ من الجدير بي التوقّف لتحديد الفرق بين الجمالِ الفوقِ طبيعيّ، الجمال الذي نلمحهُ في لوحةٍ أو نسمعهُ في أغنية أو ذلكَ الذي نصلهُ بالشطبِ و الصقل و مدى تباين الشعور في استقراء الاثنين وذلكَ صحيحٌ في حال اللوحة و الأغنية و النصّ و غيره تماماً كما هو للإنسان.
يرى كانط أنّ الجمالَ كيانٌ مستقلّ صناعتهُ عبقريّة يتفرّد بها القليلون و الشعور بهِ (الذوق) صفة عالميّة فطريّة في كلّ إنسانٍ يحتاجُ للوصولِ إليها صقلَ قراءته و عينه و أذنه.. الخ، بينما نقرأ هيجل على النقيض يحدّد للذواتِ قيماً مُنفصلة و يقفُ مع شكسبير حينَ يقولُ:-
"الجمالُ يُشترى بحُكمِ العينِ
ولا يُثرثر بأوّل عروضِ لسانِ التاجر"

أو هيوم حينَ قال:
"الجمالُ في الأشياءِ موجودٌ فحسب في عقلٍ يتأمّلها"

وكلا الاحتمالين قائمان، فمن الممكن أن العالميّة الظاهرة نتاجٌ للتراثِ الإنسانيّ المُتقارب جداً و المتّصل و الذي يتيحُ للجمالَ فرصةً ليختلطَ و يشكّل جوهراً واحداً عند جميع الأذواق، ولعلّ هذا أقربُ للصحّة عند الاستعانة بالتاريخ، ولعلّ امرئَ القيسِ مثلاً يرى رأي حفيدٍ لهُ -يحدّثكم- حين يقولُ:-

هصرت بفودي رأسها فتمايلتْ × علي هضيمَ الكشخِ ريّا المُخلخل
مهفهفةٌ بيضاءُ غير مفاضةٍ × ترائبُها مصقولة كالسجنجلِ
وكشحٍ لطيفٍ كالجديلِ مخصّرٍ × وساقٍ كأنبوب السقيّ المذلّل

فحبيبةُ امرئ القيسِ (هل كانتْ عنيزةً أم إحدى فرائدهِ الأخرى؟) لها خصرٌ دقيقٌ، فخذانِ ممتلأنِ بتروٍّ، عقبانِ صافيان، نهدانِ مصقولانِ مثل مرآةٍ، و الكثيرَ مما وصف، ولعلّ لهذا تبريرٌ بسيط ينبعُ من كون الحضارة العربيّة قريبة من غيرها مما أنشأ تقارباً في الاستطياب، بينما نجدُ في الحضاراتِ الأفريقيّة - إلى يومنا هذا - مفاهيمَ مختلفة تماماً عن الجمال قد تكونُ مرعبةً لبعضنا، ولعلّ فترةً معيّنة من حضارةِ المنطقة شهدتْ تفضيلاً للبدينات و نوّاماتِ الضُحى مثلاً؛ لكنّها فتراتٌ عبرت.

سؤالُ الحاجةِ إلى الجمالِ و أهميّتهِ تضخّمَ ليصبحَ سؤال الـ a priori والـa posteriori و ما إذا كان الجوهرُ الإنسانيّ نتاجاً لفطرةٍ تسبقُ الميلاد أم نتاجاً مُكتسباً للعيش، وما إذا كان الاستمتاعُ بالجمال فطرياً أم مكتسباً، و الأمرُ نسبيّ و واسع، فكثيرٌ من قرّاء المدارس الأدبيّة التجريديّة كانوا في مراحلَ عبّاداً للمدارس الرومانسيّة و السرياليّة، و كذلك رسّاموا التكعيبيّة و السريّالية الذين رسموا كلاسيكياً مُسبقاً ليصبحوا ألدّ أعداء وضوحهم.

بالنهايةِ أعتقدُ أن الجمالَ جمالٌ و كفى، و الفنّ لأجل الفنّ حركةُ سامية تتركُ العالمَ خلفها لتلامسَ قعر السمو الإنساني و شعورهُ الجماليّ، والحياةُ الجماليّة هي بالتأكيدِ حياةٌ سعيدة، فالجمالُ مفهومٌ لا يقيّد باللوحاتِ و الموسيقى و النصوص، و يمتدّ لروتينِ الحياة، طريقةِ العيش، الحبّ، ضياعُ الأيّام، فلسفة الحياة، العلم و كلّ شأن الإنسان، الجمالُ محرّكٌ طبيعيّ و مبرّر غامض عنيف التأثير على كلّ تصرفاتِ الإنسانِ ومسالكه، ولو توحّد مفهومُ الجمالِ لتناحرنا على حياةٍ واحدة.


2

"الأمرُ المروّع هو أنّ الجمال ليس رهيباً فحسب، و إنّما هوَ غامضٌ أيضاً، فالله و إبليس يتحاربان هناك، و ساحةُ معركتهما قلبُ الإنسان. لكنّ قلب الإنسان لا يطلبُ إلا الإفصاحَ عن وجعه، أصغِ الآن.. سأُسمعُكَ ما يقول.."
- فيودور دستويفسكي


تشخيصُ الألم للحديثِ عنهُ عملٌ شاقّ، الألم الوجوديّ أشدّ صرامةَ من الفقرِ المُدقع، اليُتم، المرض، العذاب، الحرب، و فقد كلّ ما هو ثمين.. ذلكَ أنّ الألم الوجوديّ يعلّق ضحيّته على حافّة التخلي عن قيمةِ كلّ شيء، فالحياةُ بما فيها تفقدُ الأهميّة، الخطواتُ لأجل المستقبل بلا أهميّة، كلّ ما هو ثمينٌ لا أهمية لهُ ولا قيمة، فكلّ سلّمٍ نصعدهُ ينتهي بدرجةٍ أخرى، وكلّ قمّةٍ نبلغها إمّا تُشرّدنا بحثاً عن أخرى أو تُسقطنا في الهاوية مارين بسرعة صاروخيّة بجانب ارتفاعاتٍ أضعنا العمرَ في تسلّقها، وكلّ ألمٍ سوى ألمِ الوجودِ شعورٌ مُفرطٌ في السخافةِ واللامعنى.

إن ألم أسئلة الغايات، أسئلة عبثيّة الحياة، أسئلة جوهر الإنسان و ما هو لأجله شفراتٌ صغيرة يخبّئها لامسُها في حنجرته لتحزّهُ مع كلّ لُقمة، تحت أجفانهِ لتحزّهُ مع كل رمشة، على طبلة أذنه لتتجرحَ كلّما اهتزّت لصوتٍ ما، فكلّ الطرقِ مُغلقة، كلّ الأساليبِ جامدة، ولا طريقَ لبلوغِ نتائج، بعد فترةٍ تجدَ نفسك واقفاً أمام المرآة تتأملُ بؤس الإنسان، فيزيائيّته، وجودهُ المُفروضُ، و الشكّ بكلّ شيء حتى في تلكَ الصورة ذاتِها.

لا شيءَ يُنقذكَ من اضمحلال وجودكَ فرداً من المجتمع، الجرفُ الوجوديّ صامت و يمسكك بكلّ ثباتٍ و تشلّ تماماً عن الحركة، لا شيءَ ثقيلٌ على قلبِ الإنسانِ سوى هذا الجرفِ الأسود، الجرفِ الفارغِ تماماً و الغامضِ جدّاً، السوادُ السرمديّ، ما يورثكَ الكثير الكثير من اللامبالاة، عدم الاكتراثِ بما يجري من حولكَ، قلّة الاهتمام بشأنِ كلّ يومٍ، بمُتَعِكَ الصغيرةِ، بعبثكَ، بمشاركتكَ المجتمعَ أيّ حدثٍ عابرٍ، بشعوركِ بالراحةِ خارجَ عُزلتكَ و أشياءَ أخرى.

لا شيءَ ينتشلكَ من زنزانةِ العزلةِ عندما يقيّدكَ الوجعُ الوجوديّ، لا شيءَ يعيدكَ إنساناً كُنتهُ، فعدد الساعات الذي يمرّ لا يهمّ، عمركَ لا يهمّ، ما مضى أو سيأتي لا يهمّ، كونك جديداً عن الحياةِ لا يجعل بينك و بين رجلٍ يقدّم قدماً لقبرهِ و يؤخّر الأخرى لينتزع آخر مُتعهِ من الحياة؛ كلاكما منتجاتٌ غير صالحةٍ للاستهلاك الاجتماعي و كلاكما تعرفانِ عن الحياةِ ما لا يعرفهُ سواكما؛ كمّيةُ اللاشيءِ فيها.. كلاكما لا تسألان عن عن احتمالٍ أو "ربّما"، وكلاكما فقدتما القدرةَ على الإيمان، فلا شيءَ حقيقيّ.. لا شيء مؤكد.. وكلاكما فقدتما الحساسيّة تجاهَ كلّ شيءٍ لتستقرّ كلها على شكلِ حساسيّةٍ مُفرطة تجاهَ الجمال؛ صنو التعبِ الوجوديّ الأزليّ و شريكهُ في الغموضِ القاتم.. فورَ أن تغرقَ كليّاً في ألمكَ الوجوديّ لا أيدي هُناكَ لا تنتشلك، لا شيءَ سوى حزنٍ بسيط ، حزنٍ يطفو بلا وضوحٍ و سعادةٌ إلهيّة بالجمال، بالكثير من الجمال..

ليست هناك تعليقات: