شهر أغسطس - ماجد الجارد .

( بقايا عتمة .... ) – للكاتب / ماجد الجارد
طرق الباب بلطف...ثم دخلت الممرضتان للحجرة بحيوية قائلتان : صباح الخير
- صباح النور .
على الفور ناولتني إحداهما البالطو الرمادي ثم تنحيا غير بعيد..
ارتديت البالطو ذا الأزارير البلاستيكية الكبيرة ثم استلقيت على السرير
قلت بصوت ساخر: المكوك جاهز .
أفترّّ من ثغريهما ابتسامة صغيرة.
تحرك السرير برفق شبه نصف استدارة واندفع ناحية باب الحجرة.
فاح من الممرضة القصيرة رائحة عطر الأناناس وهي تميل فوق جبيني بخصلات شعرها المعطر
هامسة في أذني: سنعيدك لحجرتك مبصرا.
سلكنا الممر الطويل متجاوزين الغرف التي لا تخلو من أصوات المرضى وهم يستعدون للعمليات الجراحية.
أقتربنا منها , أسمع صوتها وهي تتحدث برقة غير متكلفة ضاغطة بسماعة الهاتف على خدها , أشارت بيدها البيضاء..
توقفنا.. أسمع خطواتها الرشيقة تستدير من خلف طاولة الاستقبال المرتفعة
فاجأتني بأن لمست يدها الصغيرة حاجبي الكث: أنت محظوظ من بين العميان لكونك ستبصر الدنيا..
قلت: آمل أن أول ما تراه عينّي عيناك..
ولم تمهلني لأتحدث إليها.
سحبت صاحبة عطر الأناناس السرير متعجلة ناحية المصعد المستقر في بهو المستشفى, انتظرنا برهة, فتح المصعد بابه ودفع السرير داخله ثم الى الطابق العلوي..
أوصلتني الممرضتان لغرفة العمليات.. قالت صاحبة العطر الفواح: أتمنى لك نجاح العملية, لا تقلق لن يطول انتظارك..
اكتفيت بإيماءة صامتة فرهبة الموقف أكبر من أي لباقة كلامية أو حتى مجاملة بسيطة.. المكان يفرض نفسه فهو لا يعرف الحلول الوسط بل الحلول القطعية الصارمة.
أخذتني بقايا ذكرياتي فقبل أربعين عاما خرج ثلاثتهم للدنيا سويا, فالروح لا تسكن جسدا سواه وهو لا يتنفس روحا غيرها, ولم يقاسمهم الحياة إلا عمى وعتمة استحكما وأحاطا به من كل مكان
فتوحدو ثالوثا تمازج بمشاعره ونزعاته الإنسانية.. أربعون عاما من الظلام! أربعون عاما من عالم بلا ألوان! أربعون عاما من العيش بين الأثر الباهت! أربعون عاما من الاختباء خلف الحجب والأقنعة!
أي روح سرت في تلك القرنيتان الغريبتان!! بل أي جسد حواهما!! أم أي عالم أبصرتا!!
تحلق حولي الفريق الطبي وهم يتحدثون اللغة الانجليزية, أنكرت أصواتهم ما عدى الصوت الحاد لطبيبي قائلا: أما زلت ترغب في العملية؟ قلت: بكل تأكيد فلا عوض عن البصر.. قال أخر ذا صوت خشن وخافت:سنحقنك بالبنج من خلال المغذي مما يجعلك تهذي قليلا.. من فضلك أبدأ العد .... فقدت الشعور بأعضائي تدريجيا و ثقل لساني , واحد اثنان ثال.....***
بعد بضع ساعات علا فوق رأسي رنين منتظم متقطع.. ودون أي مقدمات تلاشى وغاب معه الوعي فجأة كم يختفي كل شيء فجئ ... .
مرة أخرى عاد الوعي والرنين! أصبحت قادرا على تلمس كومة القطن فوق جبيني. أدركت بعدها بأني في غرفة النقاهة..

تخلل أذني قرع خطوات : مبروك مبروك !!
قال الطبيب: الحمد لله تمت العملية بنجاح وزرعت لك قرنيتان, اليمين سوداء واليسار خضراء! فنحن لم نجد ما يناسبك من لون واحد ولكن إذا استقرت حالتك سنجري لك عملية زراعة عدسة ملونة حسب اللون الذي ترغبه..
قلت: ولدت أعمى وأبصرت أعور!!
غادر الطبيب غرفة النقاهة .
لم أنم تلك الليلة من الآلام إلا بعد أن تناولت إبرة مسكنة .
وفي الصباح استيقظت . الهدوء يملأ الغرفة ولا أصوات في الخارج, ضغطت بأصبعي المتيبس البارد الجرس المثبت جانب السرير,
دخلت الممرضة وهي تقول:صباح الخير! هل تذكرني؟ أنا التي استوقفتك بالأمس عند مخرج الجناح..
قلت: لا, كم الساعة الآن؟
قالت بلطف: الثامنة صباحا , لا تقلق! فالطبيب سيأتيك بعد نصف ساعة لينزع الغطاء عن عينيك الجديدتين وانصرفت بهدوء .
أردت مسابقة الزمن فأنا الأكمه الذي لم يرى قط وحينما رأى صار له قرنيتان مختلفتان ليس في اللون فحسب وإنما في المصدر! فالخضراء من إنسان غربي لجمعية غربية تكفلت بأن صممت برنامج تدريبي لتأهيلي للعيش في عالم البصريات بما فيه من زوايا متعددة, وأما السوداء فمن أم شرقية أرغمها الفقر لبيع قرنيتها مضحية بها لتأمين قوت أبنائها..

فهل تتغير الدنيا بعيني؟! وهل سأراها كما رآها المتبرع الغربي أم الشرقي؟!

ليست هناك تعليقات: