شهر مايو - إلى حين .

(شلل) - للكاتبة / إلى حين
" أجيء في الغياب..
في الوقت الضائع.
كما أنا دائماً "
نقطة وسطر جديد..
الشاشة أكثر بياضاً من المعتاد ولرابع مرة على التوالي أفتح ملف word جديد وأكتب الفقرة بصيغ مختلفة ثم أغلقه دون حفظ ودون أن ترتاح تلك الأصابع التي تحاول أن ترسم حلولاً للغياب كلما حضر وجه عائشة.
رنّ صوت أمي كمنبه، وهي تطل من الباب: الساعة الآن الثالثة، وإذا كانت لديك النية فعلاً في الذهاب إلى عائشة فاخرجي من الآن لأن الطريق طويل وستتأخر عودتك.
قبل أسابيع، وفي محاولة لتضميد جرح الوقت ، تذكرت أن عائشة كانت تعشق الديكور حين كنا معاً على مقاعد الثانوية، فقفزت إلى الإنترنت وفتشت عن كتب تخصّ الموضوع. تحريت تلك التي تحمل أغلفة جذابة، وفكرت أن أرسلها لها كهدية عبر "فيديكس"، لتخيط بها فراغاتها المتشعبة، لكن بعد أن جمعت في السلّة الإلكترونية بضع عناوين، اندلع لسان السخرية من ضوء شاشتي: هل يعقل هذا؟
ترسلين لصديقتك كتباً عبر "فيديكس"، وهي معك في بلد واحد؟
ما تفعلينه هراء. ثم من قال أن عائشة مازالت مهتمة بالديكور وتنسيق الأمكنة، مادمتِ أنت نفسكِ قد فوجئت بالتغيير الذي طرأ على خط يدك وبطريقتك الجديدة المضحكة في كتابة حرف الكاف بعد عامين من اعتيادك الكتابة على الجهاز مباشرة؟
كل شيء يتغير، حتى تفاصيلنا الصغيرة تتحوّر.
ماذا .. ألا تصدقين؟
أكتبي كلمة فيها حرف كاف لتتأكدي. أكتبي مسكينة يا مسكينة. هه.
أردت أن أبصق على نفسي. أن أؤطر وجهي الذي يبدو بارداً في أعين البعض، وأبصق عليه لأرتاح.
*
عند عتبة باب بيتهم، وقفت عائشة في انتظاري، وهاتفها في يدها.
قالت قبل أن أبلغها: حتى ما قبل نزولك من السيارة كنت أتوقع أن يرنّ الهاتف وتعتذرين عن المجيء.
خجلت من نفسي لكنني ابتسمت، وحضنتها حتى تبخّرت رائحة الغياب، وأفرغت كيس مبررات جديدة. كانت هناك لمسة ضباب في الجو جعلتني على يقين بأن عائشة تدرك كم أنا كاذبة وبارعة في تأليف الأعذار، وأن الذي يريد الوصول لا شيء يمنعه. لا شيء في الدنيا يمنعه، ورغم كل ذلك فهي تخفف كثافة اللوم وتسأل عن الأكاذيب بطريقة صادقة: وهل أنهيتِ المهمة بشكل يرضيك؟ وهل والدك الآن أفضل؟ وهل كان السفر شاقاً؟ وهل سيبقى عملك مكدساً بالمهام العالقة؟
عندما بلغنا صالة الجلوس سألتني: شاي.. قهوة.. أم عصير؟
قلت لها: تعالي اجلسي. لا أريد شيئاً الآن. أريد الجلوس معك فحسب. لقد اشتقت إليك.
قالت بإصرار: بل قولي. ريقي ناشف وسأشرب شيئاً معك.
طلبت العصير، وتأملت ظهرها وهي في طريقها إلى المطبخ. كانت هيكلاً يتحرّك بثقل جبل في مكان يعجّ باللوحات ذات الأطر المذهّبة والأثاث الشرقي الذي يستمدّ فخامته من مزيج ألوانه ونقوشه، والثريا الكبيرة التي تتدلى من السقف العالي. كل هذه الأشياء تذكر بذوق عائشة الكلاسيكي، ثم صور ابنتها في مراحلها العمرية المختلفة، متكئة على أكثر من مكان، غائبة وحاضرة.
لو كنت مكانها لخبأت عن عيني الصور. لأشفقت على نفسي ولجمعتها ووضعتها في صندوق حميم كصندوق الأخت المريضة في "نساء صغيرات"، ولتركت الأشهر تمرّ بمحاذاتها دون أن تفطن للغياب!
أستطيع أن أدرك الآن كيف انحسر المقربون والمعارف والأصدقاء وبقيت عائشة مع حزنها الجليل. لا صوت سوى صوت أقدامها في المكان وانعكاسات الأشياء على شاشة التلفزيون المغلق. حتى الخادمة الفلبينية ذهبت في إجازتها السنوية وتركت فراغها في المطبخ.
عندما عادت عائشة تحمل صينية فضية فيها كوب عصير وفنجان قهوة وكأس ماء انتبهتُ إلى فستانها الوردي المبقّع بزهور سماوية صغيرة وكدت أسمح لدهشتي بأن توسوس لي، لولا أن استبدلتها بسؤالٍ لا يعنيني: أين يوسف إذن؟
- سهران في منزل عمّه.
كدت أحتج وأقول: وأنتِ؟ ألا يكفي أنك تمضين نهارات عمله وحيدة؟ لماذا لا يقضي نهاية الأسبوع برفقتك؟
لكنني تذكرت أنني آخر من يرفع صوته احتجاجاً، أنا التي اكتفيت بأربع مكالمات هاتفية قصيرة ومتباعدة لمواساتها بحجة أنني لم أعد معها في نفس المدينة وأن الوقت لا يسمح لي حتى بشراء مستلزماتي الضرورية.
هل كان مشوار الساعة والنصف مستحيلاً إلى الحدّ الذي يجعلني قادرة على رؤية عائشة تتحوّل من أم مكتنزة لا تستطيع مقاومة الأكل الدسم والحلويات، شاركتها الاحتفال مرّة بعيد ميلاد ابنتها الخامس، إلى هيكل عظمي يمشي متثاقلاً ويستر جسده بفستان وردي مبقع.. وجوارب!
جوارب في هذا الوقت الدافىء من العام! أي برد يسكن داخلها؟
لم يكن هناك شيء آخر بوسعه أن يتغذّى على هيأتها بهذه الصورة. لا الحادثة الذي تعرضت لها بعد ميلاد ابنتها بعام وقرار الأطباء استئصال الرحم على إثره، ولا تحولات يوسف المزاجية بفعل العمل والحادث، ولا تلميحات والدته برغبتها في أن يتزوج من فتاة أخرى بوسعها أن تحقق حلمه في بناء أسرة كبيرة، ولا حتى مشاحناتها مع المدير في عملها الذي استقالت منه عند انتظام "أمل" في الصف الأول.
لاشيء من هذا كلّه كان قادراً على أن يسرق الحياة ولحمتها وسداها من عالم عائشة. وحده رحيل أمل بعد تللك الحمى المفاجئة، دخل بيتها الآمن، كسر زجاج قلبها، وسرق الألوان كلها من حياتها عدا الأسود!
*
دخلت أمّي ووقفت بمحاذاتي تهزّ رأسها: ها أنتِ جالسة أمام الكمبيوتر لأكثر من ساعة، لا تفعلين أي شيء ثم تتحججين بضيق الوقت. ألن تذهبي لعائشة؟ ألم تقولي بأنها ستنتظرك اليوم؟ لقد مرّت أشهر الآن على وفاة ابنتها. أي عزاء متأخر هذا؟
- الصداع يشطرني إلى نصفين. سأعتذر منها، وسأذهب لها في وقت أستطيع فيه مواساتها حقاً. ما جدوى الذهاب دون رأس؟
سمعت "جك" من فم أمي وهي تخرج صافقة باب الغرفة.
وحدها هي أحلام اليقظة التي بوسعها أن تفهمني، تعالج تقصيري، وتسكت تأنيب الضمير لبرهة. وحدها التي تحنو وتحتضن وتغامر بنقش التفاصيل.
ربما لا يكون فستانها وردياً. ربما مازالت ترتدي ألواناً حالكة، وربما يقضي يوسف يوم الخميس معها ولا يذهب إلى أصدقائه أو بيت عمّه. أريد أن أتذكر فقط من هي تلك الصديقة التي أخبرتني أن عائشة قد تحوّلت إلى هيكل عظمي وأنها ترتدي جوارب سميكة في قائلة الصيف وأن بيتها قد اتسع على حين غرّة وتحوّل إلى صحراء؟!
*
لا أجيء في الغياب.
نقطة.
أين القلم؟
مسكينة. أنتِ مسكينة. كــــ .. كــ .. كـ !

ليست هناك تعليقات: