شهر أغسطس - سيما .

( حياة بقوة المُخيلة ) – للكاتبة / سيما
*
ولدتُ أول الثمانينات, الزمن الذي لفُرط رهبته وسرّيته لن ينتمي لأيّ حقبة سابقة أو لاحقة عليه. والذي سيُبقيني إلى الأبد محبوسة في الصناديق التي صنعتها أمي, مسامير وصفائح حديد وأقفال. محميّة في ظلّ السجان, طليقة من الأذى إلا أذاه معوزة على الدوام إلى رضاه ووجوده والأسوأ على الإطلاق حبه غير المشروط؛ الحبّ الذي تبدى على هيئة اشتراطات مستمرة: نظام يوميات صارم وفُسح آخر الإسبوع ووجبات من الحليب والكعك وواجبات رياضيات تُطيّر دموعي في الهواء.
*
كنتُ بِكرها, ولم يكلفني ذلك ثقل آمالها فحسب, بل حمّلني المسئولية تجاه كلّ العثرات وسوء الحظ التي لحقت بحياتها. وكنتُ هشّة, مُكرَبة ومُقلقلة بحيث أنّي بدوت خيبة مضاعفة. في حين كانت هي شديدة النزاهة للصورة التي تخيلت حياتها عليها: بيت كبير ومهوّى بلا مسحة غبار, أولاد نظيفين ولامعين ومجتهدين في المدرسة, وزوج... حسناً إني لم أدرك أبداً شكل العلاقة بينها وبين أبي, بل إنه بدا والد لنا جميعاً كما بدت هي أم لنا جميعاً, نحن ووالدي.
*
لقد أبقتني تحت رمشيها الساحرين, مُثمنة في فساتين منفوخة بطبقات من التول ومذهّبة العنق والكفين وشحمة الأذن, برهان براعة حقيقية في تكوين ثم تنشئة طفلة "على الأصول" لكنها تخفي خراقة لا حدود لها, بحيث أنها كانت دائماً بحاجة إلى إشارة من حدّي رموشها: حادّة "لا تتواقحي", ناعمة "إنّك جديرة بالثناء", ضبابيّة "إنك لا تحوزين ما يكفي من الرضا" جانبية "انتبهي يا بنت" متعالية "لا تستحقين محبتي". ولذلك شعرتُ دائماً أنّي موضع تقييم, وأن عليّ أن أجتهد حتّى الإنهاك فيما لا يستحق إلا القليل فقط من الجهد.
*
كانت أمي مهووسة بشيئين: الروتين اليوميّ وَالعيب الاجتماعي؛ وإذا كان الأول تخرقه نهايات الإسبوع والمرض فإن الثاني سيبقى عصيّاً على الخرق في حضرتها. في نهايات الإسبوع كانت تتوقف حفلة شدّ الشعر و"باشري شرب الحليب على الفور" إذ تتحول أمي إلى كائن رضيّ ألطخه بقبلات وقبلات من اللعاب والحليب, فتمسح خدها وتضحك. وبعد سنوات مما سأعده إنهياراً للنظام الذي أحكمته على حياتي, كنتُ سأستمر وفية إلى تعقيدات روتينها في استيقاظي المبكر, وإلى وخزات العيب إذ أختبئ في الحمام كلما احتجتُ إلى نفخ أنفي في المناديل.
*
أدركُ الآن, وأنا بعيدة عنها لكن واقعة مباشرة تحت سطوتها, كيف تلاعبت بي بين أصابعها, وكيف حرّكتني في الحيز الذي أرادته دائماً: مُطيعة ومنضبطة. وأحمل في داخلي حسداً لا يكفّ عن التوالد إزاء أخواتي الصغيرات: حُرّات من توقعاتها, خارجاتٍ عن إرادتها, مناكفات, ساطيات اللسان ويحملن رعونة فتيّة. وقد حظين ليس بمحبة أمي فحسب, وإنمّا بإعجابها المُخدَّر بهن, بوصفهن ذوات مستقلة. في حين سأبقى للأبد مربوطة إلى ذيلها, متشبثة بأصابعها, مُؤتمرة بأمرها ومنتهية بنهيها. والأشد وطأة على روحي: أني سأبقى للأبد تواقة إلى قبولها, عُطشى لرضاها, وفي سبق محموم لنيل إعجابها, مضمار تلو مضمار, جزرة تلو جزرة, قطعة سكر تلو قطعة سكر.
*
عشتُ برفقتها حريات متفلتة في الخميسيات التي عبرتنا, حرية بوظة الحليب وحرية السمك المملح وحرية الجلو بالفاكهة المعلبة وحرية الشوكلاتة مُذوّبة على المدفأة. لكن ما إنّ تفلت صدري حتى راحت تحبسني عن الأكل وتقيمني من على السفرة. وذلك لم يعني أني كابدتُ الجوع. ما كابدته كان فورة كوابيس لاذعة, كوابيس طبقات من الدهن السائح المقزز في ظهائر حارّة ودبقة. كيس أرز, كيس بطاطا, كيس بصل؛ السمنة باعتبارها شرّاً محضاً. توقف ذلك كلّه حين أخبرتني, برفق متناهي, أني آكل مثل بقرة.
*
أحبّك حبّاً جماً, أحبك أقل من هذا, أحبك أكثر من ذاك, لا أحبك على الإطلاق. اطلعي درجة درجتين. انزلي لآخر السلم. اطلعي. انزلي. اطلعي وانزلي. اطلعي وانزلي. اطلعي وانزلي. راقصة على السلالم. أراجوز على الدربزون. دمية كونكان لماما. سيزيف وصخرته لماما. أمي التي لا تملك حظيرة. وكان يؤذيني أشدّ الأذى اضطراري لنزول السلم دفعة واحدة وصعوده درجة درجة فيما يشبه سباق تتابع. قبلة. قبلتين. عناق. هذا مهيرج اكليه, محد يشاركج فيه. توته يااا توته. مرحبا يا حيّ هالقبال. هلولو نامي. نامي نومة هنية نومة الغزلان في البرية. وإن كان من عين أبوها اطلعي. شببتج بالسميع العليم. حرستج باسم الله. ولباسج حرير ومعاضدج ذهب. كله من خير ابوها. درجة درجة درجة. ثم هوووب. لا تنزلي شفرات التكييف مجدداً. آخر السلم. اللعبة التي حتّى لما بعد الغد باقية. بيادق مسرنمة. لاعب حذق. خطوتين للأمام أو للخلف. لا خطوات جانبية.
*
سِنان فـ طمطوم ثم ماروكو. شتاءات شيّ البطاطا الحلوة فَشيّ الكستناء ثم شيّ أكواز الذرة. الأرصفة بالأبيض والأسود فـ بالأصفر والأسود ثم بالأبيض والأسود. الثمانينات فـ التسعينات ثم الألفية. كنتُ سأهرعُ إليها "عضّتني بعوضة". سأدور حول جذعها أمام الموقد "علميني المهلبية". وسأنام على فخذها "حدثيني عن الحلم الذي رافق حملك بي". وستخبرني عن الحكاية التي أضفتْ بالكثير من المخيلة والتكرار طابعاً خرافيّاً على وجودي: حلمتُ يا ماما أنّ جدتك أعطتني عباءة, وكانت باهتة السواد وعتيقة فرددتها إليها, فقالت آنذاك في الغد سوف تصبح شيئاً زاهياً. ولمّا رأيتكُ أول مرّة فكرت أنه لا يمكن لطفلة بمثل بشاعتك وتغضنك أن تخرج مني, لكنك في الغد تحولتِ إلى أجمل أرنبة في الدنيا.
*
وفي سورات الغضب أو حصر الحزن سأعرف كلّ ما أحتاجه عن أمي. رغم أنّ كليهما لا يتفقان مع العوق الذي كنتُ عليه. ولا أيّ منهما يدخل في الحيز "الصحيح" ضمن قائمة: يجب/ لا يجب, مُرضي/ مُسخِط, درجة درجة/ آخر السلم. السورات نافرة عروق الصدغ, سطحية الأنفاس, ضيقة البؤبؤ, متعرقة وراجفة جراء مَقلَمتي الضائعة (المسروقة؟!). والحصر تحت طبقات الألحفة, معقود ومقوس ودامع ومكلوم وبردان يسترجع جدول ضرب الستة المنسيّ ويتلمس آثار المساطر الستّ على كفه. كانت أمي في الحزن, وبدرجة أقلّ في الغضب, تأخذني بين ذراعيها, وتطلب مني بحنان مُبهِظ الوشايةَ بأولئك اللذين أثقلوا على طفلتها بمثل هذه الكُلفة. ولما كنتُ شديدة الكتمان, كانت تُسرّ في أذني بأنّ الله سيأخذهم جميعاً إلى جهنم.

ليست هناك تعليقات: